حين قرأتُ كتاب «"The Truth Machine"« لمايكل كايسي وبول فيني، شعرت أنني أمام عمل لا يكتفي بتفكيك تكنولوجيا البلوك تشين من منظور تقني، بل يتجاوز ذلك إلى مساءلة فلسفية وأخلاقية عميقة حول الثقة، والسلطة، والمركزية، بل وحتى جوهر الإنسان في عصر ما بعد الحقيقة. لم يكن الأمر مجرد قراءة في مستقبل التكنولوجيا، بل كان أشبه برحلة في مستقبل الثقة نفسها.
يبدأ الكاتبان بعرض سؤال جوهري: لماذا نثق بالأنظمة المركزية؟ ولماذا فشلت هذه الأنظمة، رغم مؤسساتها المحكمة، في الحفاظ على الشفافية؟ في لحظة معينة، يتوقف القارئ ليتأمل أن كل ما نراه من بيروقراطيات، منظمات دولية، بنوك مركزية، حكومات، وحتى شبكات اجتماعية، قائمة على ثقة افتراضية في وسطاء. لكن ما يحدث عند انهيار هذه الثقة؟ هذا هو المدخل السردي الذي شيد عليه كايسي وفيني مشروع الكتاب.
ما لفت نظري في الأسلوب
الذي اعتمده الكاتبان هو قدرتهما على مزج السرد التاريخي بالتقنية، دون السقوط في جفاف
المصطلحات أو الوقوع في غواية التبشير التكنولوجي. يتحدثان عن نشأة البيتكوين، لا كمجرد
عملة رقمية، بل كاستجابة وجودية لأزمة الثقة التي انفجرت بعد الأزمة المالية عام
2008. كان ساتوشي ناكاموتو، بطل هذه القصة الغامض، كمن يعلن عصيانًا ناعمًا ضد السلطة
المركزية للنقد، معلنًا ولادة "آلة الحقيقة".
البلوك تشين، بحسب
الكاتبين، ليست فقط سجلًا رقميا غير قابل للتزوير، بل هي ثورة في بنية الثقة. إنها
محاولة لـ"أتمتة النزاهة"، كما يسميها البعض. لكن هنا تحديدًا بدأت تساؤلاتي
تتزايد: هل يمكن حقًا إحلال الثقة البرمجية محل الثقة الإنسانية؟ وهل كل شفافية هي
عدالة؟ يتحدث كايسي وفيني عن مجتمعات قد تُبنى دون حاجة لمؤسسات تقليدية، حيث يُصبح
العقد الذكي، لا الموظف البيروقراطي، هو الحَكم. فكرة جذابة، ولكنها محفوفة بالمخاطر
أيضًا.
ما أعجبني في الكتاب
أنه لم يتورط في تصوير البلوك تشين كـ"حل سحري" لكل مشكلات العالم. بل على
العكس، كانت هناك لحظات يعترف فيها المؤلفان بقيود هذه التقنية، كاستهلاكها الكبير
للطاقة، أو صعوبة تعديلها في حال وجود أخطاء. كما يشيران إلى أن البلوك تشين لا تُصلح
الأنظمة الفاسدة من تلقاء نفسها، بل هي أداة تحتاج إلى إطار اجتماعي وأخلاقي يُفعّلها
بشكل عادل.
أحد الفصول التي أثرت
فيّ كثيرًا هو ذاك الذي يتحدث عن استخدام البلوك تشين في دول العالم النامي. من بين
الأمثلة اللافتة، تجربة جورجيا في تسجيل الملكية العقارية على البلوك تشين لتفادي التزوير.
بدا وكأن التكنولوجيا هنا تستعيد العدالة للمواطن العادي، لا للمستثمر الغني. هذه الحالات
تعطينا لمحة عن إمكانيات تغيير اللعبة.
ومع ذلك، لم أستطع
كقارئ إلا أن أشعر بشيء من القلق. نحن نسير نحو عالم حيث لا يُطلب منّا أن نثق بالبشر،
بل بالخوارزميات. هل هذا تطور أم تهديد؟ هل نُسلم زمام قراراتنا لرموز مشفرة لا نفهم
آلياتها بالكامل؟ تذكرت ما كتبه «فرانك باسكال» عن "عنف الخوارزميات" في
كتابه
*"The Tyranny of Algorithms"*. ربما نحتاج لآلة "حقيقة" جديدة...
تكشف أيضًا عن طبيعة التكنولوجيا نفسها، لا فقط ما تسجله.
في الختام، أستطيع
أن أقول إن
"The Truth Machine" ليس كتابًا تقنيًا بقدر ما هو تأمل فلسفي في معنى الثقة في العصر الرقمي.
إنه عمل يحفز العقل ويستفز التساؤلات، ويضع القارئ في مفترق طرق بين الحلم الطوباوي
بنظام غير فاسد، وبين القلق المشروع من هندسة اجتماعية جديدة بلغة البرمجيات.
إنه كتاب يجب أن يُقرأ
لا لمجرد معرفة ما هو البلوك تشين، بل لفهم الكيفية التي قد تُعاد بها صياغة علاقتنا
بالعالم، بالسلطة، وبأنفسنا أيضًا.
0 التعليقات:
إرسال تعليق