كغيري من أبناء هذا الوطن، لم أكن يوماً بعيداً عن صخب الحياة اليومية، ولا عن ملامسة ما يجري في الأزقة والمدارس والشوارع من مظاهر عنف آخذة في التصاعد، حتى صارت جزءاً من المشهد العام، تفرض نفسها علينا وتقتحم أحاديثنا في المقاهي ووسائل الإعلام، تماماً كما يقتحم الضجيج المدن التي فقدت القدرة على النوم.
منذ سنوات، وأنا أراقب عن كثب هذا الانزلاق السري والضاج نحو التوتر. لا يتعلق الأمر فقط بأحداث متفرقة هنا وهناك، بل بتحول نفسي واجتماعي عميق يتجلى في سلوك الشباب، خصوصاً في الأوساط التعليمية، حيث كان يُفترض أن يكون الحوار بديلاً عن الصراخ، والتعقل بديلاً عن العنف. والواقع أن ما يجري لا يمكن عزله عن مجموعة من التراكمات التي جعلت من العنف وسيلة للتعبير، ولربما وسيلة للوجود ذاته.
أعرف، كما يعرف الجميع،
أن الإنسان كائن هشّ حين يتعرض للإقصاء، وأن العنف لا ينبع من القوة بل من العجز. وهذا
ما لاحظه الباحث المغربي عبد الصمد الديالمي حين ربط في أكثر من دراسة بين العنف وتفتت
القيم الاجتماعية، معتبراً أن "العنف هو لغة الهامشي حين يُحرَم من أبسط حقوقه
في التعبير والكرامة".
لنكن صرحاء: إن أغلب
الشباب الذين ينخرطون في سلوك عدواني – سواء داخل المؤسسات التعليمية أو في الفضاءات
العامة – لا يفعلون ذلك لأنهم اختاروا العنف كخيارٍ واعٍ، بل لأنهم فقدوا أدوات التعبير
الأخرى. البيئة الأسرية المفككة، واستقالة الدور الأبوي، والعنف الرمزي والمادي داخل
الأسرة، كلها مداخل أولى لفهم هذا السلوك. أضف إلى ذلك غياب الدعم النفسي في المدارس،
حيث يُترك التلميذ فريسة لصراعات داخلية قد تبدأ بالقلق وتنتهي بانفجار.
على المستوى التربوي،
لا يمكن إنكار أن المدرسة المغربية، رغم كل الإصلاحات، ما زالت تشتغل بعقلية تقليدية
تُجسد السلطة أكثر مما تُحفّز الإبداع. العلاقة بين المدرّس والمتعلم غالباً ما تكون
قائمة على الخوف وليس على الحوار، ما يجعل أي احتكاك قابلاً للتحول إلى صدام. وقد وثقت
تقارير منظمات مثل «اليونسيف» و» مرصد التربية بالمغرب» تزايد معدلات العنف داخل المؤسسات
التعليمية، سواء بين التلاميذ أو بين التلميذ والمدرّس، ما يُشير إلى خلل عميق في منظومة
القيم التي تحكم علاقتنا بالتربية.
لكن الأخطر من ذلك
كله هو الدور الذي أصبحت تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في تغذية هذه النزعة العنيفة.
فمع كل فيديو يوثّق اعتداءً في مؤسسة تعليمية، تتحول الواقعة إلى "ترند"،
ويتحول المعتدي – بشكل أو بآخر – إلى "نجم" في أعين بعض المراهقين. إنها
البطولة المعكوسة التي يولدها الفراغ، البطولة التي لا تحتاج إلى إنجاز، بل فقط إلى
لقطات صادمة ومشاركات واسعة.
في هذا السياق، يمكن
العودة إلى ما قاله الفيلسوف الفرنسي «ميشال فوكو» حين تحدث عن "المراقبة والمعاقبة"،
وكيف أن المجتمعات الحديثة لم تعد تراقب بالعقاب المباشر فقط، بل عبر آليات "الظهور"
و"التمثيل"، حيث يصبح المرء مرئياً في المجتمع من خلال السلوك الصادم. ومن
هنا، نفهم لماذا يسعى بعض الشباب إلى أن يُوثّق عنفه، بل ويحرص على نشره: لأنه لم يعد
مرئياً اجتماعياً إلا من خلال هذا المسلك.
أما البطالة، فهي ليست
فقط محرّكاً اقتصادياً للعنف، بل محركاً سيكولوجياً أيضاً. حين يشعر الشاب أنه بلا
مستقبل، بلا دخل، بلا موقع في المجتمع، فإن شعوراً دفيناً بالإقصاء يبدأ بالتراكم،
ويتحول شيئاً فشيئاً إلى عدوانية موجهة نحو الذات أو نحو الآخر. البطالة ليست فقط غياباً
للشغل، إنها غياب للاعتراف والوضع الاعتباري الاجتماعي.
ولا يمكن الحديث عن
أسباب الظاهرة دون التطرق إلى المخدرات. فالعديد من الأبحاث، منها دراسة حديثة صدرت
عن «المرصد المغربي للمخدرات والإدمان»، أكدت العلاقة المباشرة بين استهلاك المخدرات
وارتفاع سلوكيات العنف في أوساط الشباب، لا سيما في المناطق الهامشية التي تغيب فيها
فرص التكوين والتأطير الثقافي.
في خضم هذا كله، أطرح
على أنفسنا السؤال: ما العمل؟ كيف نوقف هذا النزيف الرمزي والمادي والاجتماعي؟ أؤمن
أن الحل لا يمكن أن يكون تقنياً فقط. لا يكفي أن نُكثّف الحضور الأمني في المؤسسات
التعليمية أو أن نُطلق حملات توعية موسمية. الأمر أعمق من ذلك.
على المدى الآني، لا
بد من تفعيل وحدات للاستماع والدعم النفسي داخل المدارس، وتكوين المدرّسين على طرق
التواصل غير العنيفة. وعلى المدى المتوسط، يجب إعادة النظر في المناهج التربوية، لتُصبح
أكثر قرباً من واقع الشباب واحتياجاتهم. أما على المدى البعيد، فالمعركة الحقيقية هي
من أجل إعادة بناء النسيج الاجتماعي، واستعادة ثقة الشباب في الدولة، في المدرسة، في
الأسرة، وفي أنفسهم أولاً.
إن العنف الذي نراه
اليوم ليس ظاهرةً معزولة، بل صرخة عميقة في وجه واقع لم نعد نحسن تأطيره. وإذا لم نستمع
جيداً إلى هذه الصرخة، فإنها قد تتحول إلى همجية لا تبقي ولا تذر. نحتاج أن نُعيد للشباب
المغربي أمله في الغد، لا فقط عبر الشعارات، بل عبر سياسات تجعل من الكرامة حقاً لا
وعداً مؤجلاً.
0 التعليقات:
إرسال تعليق