في شارع يتنهّد بالبخار الرفيع لذاكرةٍ متعبة، في قلب المدينة القديمة بمكناس، حيث الجدران تهمس بلغاتٍ اندثرت إلا في الحلم، كان المقهى: *مقهى محمد عبدالوهاب*. لا لافتة تنبض باسمه الآن، لا مقاعد تُسجّل أنفاس العابرين، لا فنجان شاي يعلو ويتبخر كدعاءٍ ضائع. وحدها الأغنية تسبح في الفراغ، تتسلل من بين الحجارة، كأنّها لا تزال هناك، تنبعث من تحت البلاط، من الشقوق، من الذاكرة، من الغياب.كان المكان يشبه صالة انتظارٍ في قصيدةٍ لم تُكتب بعد. يجلس فيه الزمن على هيئة نادلٍ شاحب، يحمل صينيةً من نُدَبِ الأمس، يُقدّمها لزائرين لا يُغادرون أبدًا، لأنهم في الأصل لم يأتوا. محمد عبدالوهاب، سيد الحضور والغياب، كان يسكن في المذياع العتيق، صوته لا يصدأ، يخرج من الظلال لا من السماعات، يتسلل كما تتسلل الروح من جسدٍ مُثقَل بالحنين.
الجندول، يا حبيبي الجندول...
كان الصوت يُغنّي لا لرواد المقهى، بل لأرواحٍ نائمة في أرائك الخشب، لم تعرف الحبّ إلا عبر صوت عبدالوهاب، لم تعرف الفقدان إلا حين أُغلِق المقهى.
في ركنٍ ما، كان يجلس ظلٌّ بلا جسد، يكتب على طاولةٍ من الضوء رسالةً لا يقرأها أحد:
"أنا آخر زبون في مقهى لم يعد موجودًا، أشرب قهوتي في فنجانٍ من الدمع، أستمع إلى لحنٍ لا يعرف النهاية."
المقهى لم يُغلَق، بل تحوّل إلى فكرة. إلى ركنٍ سري في حلم كل رجلٍ تجاوز الخمسين ويتذكّر شبابه هناك، وهو يحدّق في فنجانٍ ساكن ويُقلّب في كلمات أغنيةٍ عن حبٍ لم يكتمل. كل نافذة أُغلِقت في المقهى، صارت عينًا مفتوحة في ذاكرة المدينة. كل مقعدٍ أُفرِغ، تحوّل إلى سطرٍ في دفترٍ لا يكتبه أحد.
وفي الليل، حين تنام مكناس، تستيقظ الأرواح في المقهى. يفتح الباب الخشبي، يعود عبدالوهاب إلى مقعده، ينقر بإصبعه على الطاولة كأنه يُجرب إيقاعَ نسيانٍ جديد. الكراسي تهمس، النرجيلة تتنهد، والشاي يُسكب في كؤوسٍ لا تُمسك.
صوت عبدالوهاب يملأ الحارة:
كان أجمل يوم... يوم لقانا"
لكن من التقيا؟ وأين؟
ربما في زاوية الحلم، ربما في ارتعاشة لحن، ربما لم يلتقيا قط.
كانوا يجلسون في حلقاتٍ من الدخان، كهولًا ورجالًا تسكن ملامحهم ذاكرة المقهى أكثر من أي جدار. وجوه محفورة بالتجاعيد، بالأحاديث المؤجلة، بالنظرات البعيدة. يدخنون غاليين السبسي كأنهم يكتبون رسائل للغائبين في سُحُبٍ صاعدة ببطءٍ فوق رؤوسهم، يتحدثون بصمت، لا تسمعه إلا الطاولة، أو نغمة عابرة من "إنت عمري".
كل واحد منهم ينتظر شيئًا ما. رسالةً لم تصل. حبيبةً لم تعد. نكتةً تُروى مرة أخرى. أو ربما لحظةً سحرية تعود، حيث ترتفع الستارة، ويدخل عبدالوهاب من الباب، كما في حلمٍ قديم.
الآن، حين تمرّ بالمكان، لا شيء يُخبرك أنّ المقهى كان هنا. فقط حجرٌ رخاميٌّ في الأرض يصدر نغمة غريبة إذا داسته قدم، وكأن المقهى اختار أن يتحوّل إلى نغمة لا تُعزف، بل تُداس، كي يبقى صامدًا في لاوعي المدينة.
وهكذا، صار المقهى مرآةً مقلوبة: كل من نظر إليها رأى ما فقد.
ومكناس؟
مكناس تتابع حياتها كأن شيئًا لم يكن.
لكن تحت قبابها، وفي التجاعيد الخفية للزمن، يظل عبدالوهاب يُغنّي وحده، في مقهى لم يُغلق، بل ارتفع إلى السماء.
0 التعليقات:
إرسال تعليق