الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، مايو 05، 2025

مراجعة كتاب "عناصر الصحافة" لكوفاتش وروزنستيل: عبده حقي


لقد وجدت في كتاب عناصر الصحافة» (The Elements of Journalism)  لكاتبيه بيل كوفاتش وتوم روزنستيل مرآة فكرية صافية لما يجب أن تكون عليه المهنة، وما انحرفت عنه في كثير من السياقات المعاصرة. فالكتاب، الذي يُعد مرجعًا هاما للغاية في أدبيات الصحافة، ليس مجرد وصف للواقع، بل صيحة يقظة في وجه السقوط الأخلاقي الذي يهدد مهنة الصحافة من الداخل، لا سيما في عصر العناوين المثيرة والمعلومات السريعة.

الانطباع الأولي الذي تركه الكتاب لدي هو أنه يحاول استعادة تعريف الصحافة من أيدي مالكي وسائل الإعلام ومن السياسيين وحتى من الصحفيين أنفسهم، ليعيدها إلى أصحابها الحقيقيين: «الجمهور». هذا التصور يتوافق مع ما أؤمن به شخصيًا ككاتب يرى أن العلاقة بين الصحفي والمتلقي ينبغي أن تقوم على الشفافية والثقة لا على التوجيه والتضليل.

الركيزة الأولى التي انطلق منها المؤلفان هي أن «الولاء الأول للصحافة يجب أن يكون للحقيقة». قد تبدو هذه المقولة بديهية، لكنها في الواقع تمثل التحدي الأكبر في مهنة تقف بين نار السلطة ومطرقة الجمهور. ما شدني في هذا الطرح هو محاولته تحرير "الحقيقة" من كونها مجرد خبر عاجل أو رواية رسمية، ليجعلها سيرورة دائمة من البحث والتقصي، تحتاج إلى فحص، ومقارنة، وإعادة بناء مستمرة.

لقد وجدت في هذا الطرح صدى لتجربتي الخاصة مع الإعلام المغربي، حيث الحقيقة غالبًا ما تُخضع لميزان التوازن السياسي أو المصالح الاقتصادية. فكم من مرة صادفت مقالات تفوح منها رائحة التوجيه، لا لأن الصحفي كذب، بل لأنه لم يتحرّ الحقيقة بما يكفي. في ضوء ذلك، وجدت أن من أبرز ما يميز هذا الكتاب هو إصراره على أن الصحفي ليس ناقلًا فحسب، بل هو باحث ميداني، باحث أخلاقي، ومساءَل في كل كلمة يكتبها.

عنصر آخر أثار اهتمامي هو تركيز الكاتبين على أن «الصحافة يجب أن تُمارس كمراقب مستقل للسلطة». إنها ليست مجرد أداة للضغط، بل سلطة رابعة حقيقية، تتجاوز الانتماءات السياسية والأهواء الشخصية. وقد بدا هذا الطرح في غاية الأهمية في زمن أصبحت فيه وسائل الإعلام أذرعًا إيديولوجية أو أدوات للترويج السياسي. أتذكّر هنا كيف تعامل الإعلام الأمريكي مع حرب العراق في بدايات القرن الحالي، حيث لم تجرؤ كثير من الصحف على مساءلة السلطة كما ينبغي. وهذا ما دفع كوفاتش وروزنستيل إلى الدعوة لصوت صحفي نقدي لا يخاف من التكلّف المهني في سبيل كشف الحقائق.

كما سلط الكتاب الضوء على أهمية «التحقق والتوازن والحياد» كقيم أساسية في العمل الصحفي. لكن اللافت في تناول الكاتبين لهذه القيم أنهما لا يدعوان إلى الحياد الخشبي الذي يساوي بين الجلاد والضحية، بل إلى حياد المنهج، أي اعتماد أساليب دقيقة في جمع المعلومات والتحقق منها. هذا التصور ذكّرني بما ذكره الفيلسوف الفرنسي «بيير بورديو» حول "اللامرئية الرمزية" حين تصبح بعض الأصوات مهيمنة لأنها تلبس لبوس الحياد وهي في الحقيقة منحازة بصمت.

من الأمور التي أعجبتني أيضًا في الكتاب أن المؤلفين دعوا إلى «الاهتمام بالجمهور كمشارك لا كمستهلك». في عالم المنصات الرقمية، أصبح المتلقي أكثر من مجرد قارئ. إنه مشارك، منتج أحيانًا، وناقد دائم. ولهذا، يرى كوفاتش وروزنستيل أن الصحافة لا بد أن تُبنى على حوار حقيقي مع الجمهور، وليس على علاقات أحادية الاتجاه. وهذا أمر نشعر بنقصه بشكل مؤلم في عالمنا العربي، حيث ما زالت العلاقة بين الصحافة والجمهور قائمة على التلقين لا على التفاعل.

ولعل من أقوى الأفكار التي ختم بها الكتاب، تلك المتعلقة بـ"ضمير الصحفي". فالمؤلفان يؤكدان أن كل صحفي مسؤول عن خياراته الأخلاقية، ولا يمكنه أن يختبئ خلف المؤسسة أو التعليمات التحريرية. هذه الفكرة دفعتني للتفكير في حالات عديدة شهدنا فيها صحفيين يدافعون عن موادهم بدعوى تنفيذ الأوامر، بينما في العمق هم تنازلوا طواعية عن ضميرهم المهني.

لقد قرأت هذا الكتاب كما يقرأ المصاب تقريرًا عن مرضه، بوعي مؤلم، وبإحساس بالحاجة إلى العلاج. الصحافة في العالم العربي، كما في العالم بأسره، تعيش لحظة حرجة. وبين صحافة تتحول إلى "صناعة محتوى" بلا ضمير، وصحافة تحاول الصمود في وجه العواصف الأخلاقية والتجارية، يبقى كتاب ««عناصر الصحافة»« منارة فكرية وتربوية تضيء الطريق لكل من لا يزال يؤمن بأن الصحفي يمكنه، ويجب عليه، أن يكون صوت الحقيقة وسط ضجيج التضليل.

0 التعليقات: