لا يمكن الحديث عن المعرفة دون التوقف أمام الكيان البنيوي الصامت الذي يُدير الخلفية الرقمية لكل ما نراه ونقرأه ونُحسّه: قاعدة البيانات. هذه البنية، التي نشأت في فضاء الحوسبة كأداة لتخزين المعلومات، سرعان ما تحوّلت إلى منبع للمعنى، ومختبر لجماليات جديدة تتحدى مفهوم النص والخطاب، وتفرض أفقًا معرفيًا غير مسبوق.
بعيدًا عن الصور النمطية التي تختزل قاعدة البيانات في الجداول والصفوف والمربعات، تتجلّى أمامنا جمالية معمارية جديدة، تشبه إلى حدٍّ كبير ما تحدّث عنه «ميشيل فوكو» في مفهومه لـ"أركيولوجيا المعرفة"؛ حيث يصبح التنظيم البنيوي للمعلومة شكلاً من أشكال السلطة، ولكنه في الآن ذاته مساحة لإعادة إنتاج المعنى، لا عبر التسلسل الخطي التقليدي، بل عبر البُنى الشبكية والترابطات غير المتوقعة.
في كتابه The Language of New Media،
يشير «ليف مانوفيتش» إلى أن قاعدة البيانات ليست فقط أداة تقنية، بل هي "نموذج ثقافي"،
ينافس السرد نفسه كأداة لتمثيل العالم. فبينما يسعى السرد إلى بناء تسلسل زمني سببي،
تسعى قاعدة البيانات إلى تقديم معلومات مفصولة عن السياق، تُنظم وفق منطق داخلي قائم
على الفهرسة، التصنيف، والربط الحر. هذه الفجوة بين الخطابي والقاعدي تفتح بابًا للتأمل
في العلاقة الجديدة بين الإنسان والمعرفة.
تنبثق جمالية قواعد
البيانات من قدرتها على احتواء التعدد، على استيعاب المتنافر، دون الحاجة إلى فرض تراتبية
مركزية. كل كيان— سواء كان صورة، أو نصًا، أو تسجيلاً صوتيًا— يُعامل بوصفه عنصرًا
مستقلًا يمكن أن يرتبط بعناصر أخرى حسب الحاجة. هذه اللاخطية تُحرر الإدراك من التبعية
للسرد، وتُشبه من بعض الوجوه الحلم السريالي، حيث تتجاور الأشياء غير المتوقعة دون
مقدمات منطقية، كما في لوحات «ماجريت» أو «دالي».
ومن المفارقات أن هذه
الجمالية تنبع من منطق رياضي صارم. فكل قاعدة بيانات تستند إلى نماذج رياضية: الجبر
العلاقي، نظرية المجموعات، منطق البوابات. ومع ذلك، فإن ما يُنتجه هذا المنطق قد يكون
أحيانًا أقرب إلى الشعر من المعادلة. ففي مشروع
Digital Formalism» الذي أنجزه معهد «ZKM» الألماني، جرى استخدام قواعد بيانات لتحليل
أفلام المخرج الروسي «دزيغا فيرتوف»، ليس فقط من الناحية التقنية، بل للكشف عن أنماط
جمالية كانت غير مرئية ضمن المعالجة الخطية للزمن.
الجمالية هنا ليست
في ما هو ظاهر، بل في ما هو كامن؛ في العلاقات غير المرئية التي يمكن أن تنشأ بين العناصر،
في احتمالات الربط، في المسارات التي لم تُسلك بعد. كل قاعدة بيانات هي مشروع شعري
محتمل، تنتظر قارئًا جديدًا يُعيد ترتيبها، يُولّد منها سرديات جديدة، ويفكك من خلالها
السائد والمكرّس.
تتجلى هذه النزعة بشكل
لافت في فنون "البيانات المرئية " (Data Visualization)، حيث تُحوّل الجداول الجامدة إلى لوحات من الألوان
والحركات، تُجسّد جمالية الكمّ، وتمنح العين بُعدًا جديدًا في تلقي المعنى. هنا، تتلاقى
الرياضيات والفن، وتكفّ البيانات عن كونها مجرد رموز، لتغدو أحداثًا بصرية مشحونة بالدهشة،
كما لو كانت نُقوشًا رقمية لعالم داخلي لم نكن نراه.
لكن هل تكفي الجمالية
دون وعي نقدي؟ هل يمكن لقواعد البيانات، بتركيبها المجرد، أن تُعيد إنتاج نفس البنى
الإقصائية التي حاربتها الفلسفة النقدية؟ الجواب ليس بسيطًا. فكل قاعدة بيانات، في
النهاية، تتطلب من يُصممها، يُحدد ما يدخل فيها، وما يُستثنى. وبالتالي، فالجمال ليس
حياديًا، بل قد يكون واجهة شفافة لنُظم قمعية تتخفى وراء الحياد الرقمي.
في هذا السياق، تُذكّرنا
الباحثة «سافييا أوموجا نوبل» في كتابها
«Algorithms of Oppression» بأن تنظيم البيانات ليس فعلاً بريئًا، بل قد يُعيد
إنتاج العنصرية والتحيّز الجندري في صيغ جديدة، أكثر خفاءً وخطورة. ولذا، فإن جمالية
قاعدة البيانات لا تكتمل إلا حين تقترن بالمساءلة النقدية، حين نصغي لما هو غائب عنها،
ونتفكر في ما تم إقصاؤه عمدًا أو عن غير قصد.
في نهاية المطاف، لا
تكمن جمالية قاعدة البيانات فقط في بنيتها أو إمكاناتها، بل في العلاقة الجديدة التي
تُعيد تشكيلها بين القارئ والمعلومة، بين النص والسياق، بين الفرد والنظام. إنها مرآة
للحداثة المتأخرة، حيث يصبح اللاسرد سردًا، وتغدو اللاخطية منبعًا للمعنى، وتصبح الصمت
الرقمي مشروعًا فلسفيًا قائمًا بذاته.
0 التعليقات:
إرسال تعليق