الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، مايو 22، 2025

جنوب أفريقيا بين نار الاتهامات وشعلة الديمقراطية: عبده حقي


تعيش جنوب أفريقيا في الأسابيع الأخيرة على وقع جدل محتدم، فصور مرعبة لجثث مزارعين بيض ملفوفة بأردية بيضاء تُبثّ على الشاشات، وتقارير موثقة تتحدث عن عمليات قتل منهجية، خلقت عاصفة من التساؤلات حول مصير فئة من المواطنين البيض، وسط اتهامات متصاعدة بوجود إبادة ممنهجة تدفع آلاف الجنوب أفريقيين إلى الهروب واللجوء، خاصة نحو الولايات المتحدة.

هذه المشاهد التي استوقفت الرأي العام الدولي، دفعت الصحافة إلى مساءلة المسؤولين في بريتوريا: ما الذي على القيادة السياسية أن تفعله إزاء هذه الادعاءات؟ وإلى أي مدى يمكن الحديث عن أزمة حقوقية حقيقية، أم أن ما يجري هو انعكاس لتضليل إعلامي ممنهج يستهدف النسيج الاجتماعي والديمقراطي للدولة؟

الصور ومقاطع الفيديو المنتشرة توثق، بحسب ما يروج له البعض، لعمليات تصفية جسدية بحق مزارعين بيض، تحدث في أراضيهم التي تُصادَر قسرًا. ويتحدث بعض الشهود عن تهديدات مباشرة بالقتل، ترافق عمليات الاستيلاء على الأراضي. بعض هؤلاء الشهود هم أصدقاء لمتحدثين علنيين، يقولون إن الجرائم ليست من قبيل الإشاعة، بل وقائع متكررة.

لكن في المقابل، كان الرد الرسمي أكثر تعقيدًا وتماسكًا. فبحسب تصريحات صادرة عن مستويات رفيعة في السلطة، فإن ما يُتداول لا يعكس السياسة العامة للدولة. "جنوب أفريقيا دولة ديمقراطية متعددة الأحزاب، تكفل حرية التعبير للجميع، حتى لأحزاب الأقلية التي قد تتبنى مواقف متطرفة"، هكذا جاء الجواب، مع التأكيد على أن الحكومة لا تتبنى أبدًا دعوات العنف أو مصادرة الأراضي دون وجه قانوني.

لطالما كان ملف ملكية الأراضي في جنوب أفريقيا من أكثر الملفات حساسيةً، محمّلًا بإرث تاريخي من التمييز والاستحواذ الاستعماري. ومع أن الدولة اليوم تسعى لتصحيح هذا الإرث، إلا أن ذلك لا يعني تبرير العنف أو التساهل مع الجرائم. الدستور الجنوب أفريقي، كما جاء في التصريحات، "يحمي جميع المواطنين وحقوقهم في التملك دون تمييز"، بل ويكفل آليات قانونية لأي نزع ملكية في حال تعارضت مع المصلحة العامة.

لكن ما يزيد الوضع التباسًا، أن تقارير محلية ودولية تشير إلى أن بعض عمليات المصادرة تتم خارج الأطر القانونية، ترافقها في بعض الأحيان أعمال قتل لا يُحاسب مرتكبوها. الأمر الذي يطرح تساؤلات محورية حول فعالية الدولة في فرض القانون، وعن قدرة النظام القضائي على ضمان العدالة في بلد ما زال يتلمس طريقه نحو مصالحة تاريخية شاملة.

لم تغب الشكوك بشأن صحة بعض الأخبار المتداولة، إذ تحدثت جهات رسمية عن وجود "حملات تضليل إعلامي" تُغذي خطاب الخوف، وتستخدم منصات دولية لنقل صورة قاتمة ومفزعة عن الوضع الداخلي. ويستشهد مسؤولون بأمثلة على أخبار مزيفة انتشرت سابقًا حول قضايا عسكرية أو أمنية لا أساس لها من الصحة.

غير أن ذلك لا يلغي الحاجة إلى التحقيق الجدي والشفاف. فالاعتراف بوجود جرائم لا يعني بالضرورة وجود سياسة رسمية خلفها، لكنه يتطلب مساءلة صارمة لمن يثبت تورطه، وخاصة إذا كان من بين المسؤولين أو المتنفذين.

في خضم هذا الجدل، شددت جنوب أفريقيا على حاجتها إلى دعم تكنولوجي متقدم من الولايات المتحدة، يساعد في تقنيات التحقيق الجنائي وتتبع الجرائم. وأعلنت عن رغبتها في إقامة شراكة أمنية حقيقية لمواجهة ارتفاع معدلات الجريمة، والتصدي لعصابات السطو والاستيلاء التي قد تكون وراء هذه الجرائم، بعيدًا عن أي خلفية عنصرية أو سياسية.

لا شك أن ما تشهده جنوب أفريقيا اليوم هو اختبار مزدوج: اختبار للعدالة الانتقالية التي وعد بها نيلسون مانديلا، واختبار للثقة الدولية في مؤسساتها الديمقراطية. فبين صور الجثث وروايات الهروب، تقف الدولة في مواجهة أسئلة ملحّة، تحتاج إلى شفافية أكبر، وقرارات شجاعة، بعيدًا عن الإنكار أو التبرير.

إن جنوب أفريقيا، التي تسعى إلى طيّ صفحة الماضي وبناء مستقبل مشترك، مطالبة اليوم بإثبات أن ديمقراطيتها قادرة على حماية الجميع، دون انتقاص أو إقصاء. أما إن تُركت هذه الاتهامات دون رد فعل حاسم، فالأخطر قد لا يكون ما حدث، بل ما قد يحدث لاحقًا في ظل الصمت.

0 التعليقات: