الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، مايو 22، 2025

«سعيدة نغزة » صرخة سياسية من قلب قفص الاتهام : ترجمة عبده حقي


في مشهد درامي هز الضمير الوطني في الجزائر، اختتمت أكبر محاكمة في الجزائر، التي عُقدت أمام القطب الاقتصادي والمالي لمحكمة سيدي محمد منذ الخامس من مايو، بقضية تطال أكثر من 80 متهماً في ملف معقد يجمع بين الفساد السياسي والاحتيال وتزوير الانتخابات، ضمن ما بات يُعرف بـ"فضيحة التزكيات الرئاسية". لكن ما خطف أنظار الرأي العام لم يكن الكم الهائل من المتهمين، بل شهادة مدوية أطلقتها السيدة «سعيدة نغزة»، إحدى أبرز الشخصيات المستهدفة في هذه القضية، وهي تخاطب القاضي بكلمات زلزلت القاعة:

«أرسلوني إلى السجن، فأنا مستعدة للذهاب الآن... لكن أطلقوا سراح هؤلاء الأبرياء «.

سعيدة نغزة، السياسية المعارضة، والناشطة المعروفة منذ عام 2016 بمواقفها الحادة ضد التداخل غير المشروع بين المال والسلطة، تحولت إلى رمز لمواجهة ما تصفه بالأجهزة القمعية التي لا تتورع عن استخدام القضاء سلاحًا لتصفية الحسابات السياسية. خرجت من صمتها في ختام الجلسات، لتقدم مشهداً مسرحياً حقيقياً، محمولاً على أعمدة الكرامة والعناد السياسي، حين أعلنت استعدادها لتحمل المسؤولية كاملة، مقابل الإفراج عن عشرات المتهمين الآخرين، الذين تصفهم بالضحايا الأبرياء في مسرحية تستهدفها وحدها.

منذ سنوات، كانت نغزة من الأصوات النسوية القليلة التي تجرأت على نقد نظام بوتفليقة في ذروته، حين كان مجرد التلميح إلى فساد الأوليغارشية يُعد ضرباً من المجازفة. وبما أنها امرأة، وأمّ لأربعة أبناء، وذات شعبية واسعة في الشارع الجزائري، شكلت تهديدًا مزدوجًا: سياسياً واجتماعياً. فلم يكن النظام ـ بحسب المراقبين ـ ليتحمل فكرة أن تنهض امرأة بحجمها لتقود بدائل ديمقراطية في وجه استمرار عبد المجيد تبون في الحكم.

النيابة العامة طالبت بعشر سنوات سجناً نافذاً في حقها، بينما تتراوح التهم الموجهة لبقية المتهمين بين تقديم وعود مالية غير مشروعة للحصول على تزكيات انتخابية، واستغلال الوظيفة العمومية، إلى جانب تهم تتعلق بالتزوير والنفوذ. لكن اللافت في الملف، كما تؤكده مصادر إعلامية مطلعة، أنه يفتقر لأي دليل مادي يثبت فسادًا مباشراً ارتكبته نغزة أو مناصروها. وكل المؤشرات ـ بحسب هذه المصادر ـ توحي بأن الهدف الحقيقي هو إسكات صوتها وإقصاؤها من الحلبة السياسية قبل موعد الانتخابات الرئاسية المبكرة المقررة في 7 سبتمبر 2024.

في مرافعتها الجريئة، لم تطلب نغزة العفو أو الرأفة، بل طالبت القاضي أن ينظر في القضية بضمير حي، وقالت:

*"هؤلاء الأشخاص لم يقترفوا جرماً، البعض فقد والديه، والبعض الآخر يعيش تحت قهر الاعتقال بلا سبب. لا تطلبوا مني الصمت، فأنا من يجب أن تتحمل المسؤولية كاملة. أطلقوا سراح الأبرياء، وضعوني أنا وحدي في السجن إن أردتم العدالة."*

إن هذه العبارات، التي خرجت من قلب النزاع، لا تعبر فقط عن مأساة شخصية بل عن أزمة وطنية أعمق، حيث تتحول المنابر القضائية إلى أدوات قمع وتصفية حسابات سياسية، تحت ستار محاربة الفساد.

لم يكن صدفة أن تُقحم شخصيات هامشية مثل عبد الحكيم حمادي وسليم ساحلي في الملف. فهؤلاء، كما تشير التحقيقات، لعبوا دور "الديكور القضائي"، لتغليف القضية بهالة جماعية، تمنع قراءتها كاستهداف فردي لسعيدة نغزة، وتجعلها تبدو كضربة قضائية ضد "منظومة فساد جماعية" وليست مؤامرة ضد امرأة واحدة تُزعج النظام.

المنظمات الحقوقية والإعلام الحر في الجزائر وخارجها، تتابع هذه المحاكمة بوصفها اختباراً فاصلاً لحيادية القضاء في بلد لم يتعافَ بعد من إرث المحاكمات الانتقائية. فإذا كانت نغزة تستحق العقاب، فأين هي الأدلة الملموسة؟ وإذا لم تكن، فلماذا يُزج بها وبأطفالها ومساعديها في قضايا مشبوهة، لمجرد أنها طرحت فكرة بديلة للحكم؟ أليس من حق أي مواطن ـ مهما كان جنسه أو خلفيته ـ أن يسعى إلى الرئاسة أو يرفض السياسات القائمة؟

إن ما يجري ليس سوى محاولة فاشلة لإسكات صوت نسوي حرّ، اختار السياسة لا للامتياز، بل للاحتجاج. اختار المواجهة بدل الانبطاح، فوجد نفسه أمام منظومة لا تطيق الاختلاف. إنها محاكمة ليست فقط لسعيدة نغزة، بل لكل جزائري وجزائرية يحملون حلم التغيير. والرسالة التي ترسلها هذه المحاكمة إلى المجتمع، هي أن الكرامة قد تتحول إلى تهمة، وأن الطموح السياسي قد يُساوى بالخيانة.

ويبقى السؤال الأخلاقي والسياسي الأكبر:

«هل يسجن النظام امرأة لأنها أرادت أن تكون حرة؟»


0 التعليقات: