منذ بدأتُ أمارس الكتابة، كان هناك دائمًا ذلك القلق الكامن: كيف يمكن للحكاية أن تظل حيّة، نابضة، لا تُستنسَخ ولا تتكرر؟ كانت الرواية بالنسبة لي أرضًا خصبة للتجريب، ساحةً لألعاب السرد، تقنيات الالتفاف والتكرار والانقطاع، كما لو أن بورخيس قد ترك لي خرائطه السرية، لأكتشف بها متاهات السرد الحديثة. واليوم، أمام طوفان التوليد الإجرائي للنصوص – حيث الذكاء الاصطناعي يكتب، يعيد، يركّب – أجدني أتأمل: ما مصير الحكاية حين لا يأتي الكاتب، بل تأتي الخوارزمية؟
لنتحدث أولاً عن المفهوم
ذاته: التوليد الإجرائي (Procedural Generation) . في بداياته، ارتبط بعوالم ألعاب الفيديو
– تلك العوالم التي لا يصممها فنان، بل تُبنى أثناء اللعب عبر خوارزميات. لعبة «Minecraft» على سبيل المثال ليست نتاج مبرمج، بل هي ثمرة
عملية حسابية تُعيد تشكيل العوالم الجغرافية بلا نهاية. حين دخل هذا المفهوم عوالم
السرد، أصبح السؤال: ماذا لو كانت الرواية لا تُكتب، بل تُولَّد؟
في كتابه «Electronic Literature: New Horizons for the Literary»، تطرح الباحث «ن.
كاثرين هايلز»
أطروحة جوهرية: لا
يمكن فصل الشكل الرقمي عن المضمون السردي، لأن الأدب الإلكتروني لا يُقرأ فحسب، بل
يُتفاعل معه. بهذا المعنى، يصبح السرد المُولَّد إجرائيًا تجريبًا ميتافيزيقيًا، لا
مجرد تجربة تقنية. إنه سرد يكتب نفسه، كما لو أن بورخيس قد تماهى أخيرًا مع حاسوب عملاق.
لقد ظهرت نماذج أدبية
متقدمة لهذه الفكرة، من بينها مشروع «"Taroko Gorge" للكاتب «Nick Montfort، وهو نص شعري يتغير كل مرة يتم تحميله فيه، لا
لأن أحدًا يحرّفه، بل لأن الخوارزمية تصنعه مجددًا. فهل هو نص؟ أم آلة نصوص؟ وهل يحق
لي أن أشعر بالتهديد ككاتب، أم بالدهشة كقارئ؟
أنا، الكاتب المغربي
الذي نشأ على قصص محمد شكري واحتفى بفتوحات الطيب صالح، أشعر أن هذه التقنية لا تُقصيني،
بل تفتح لي بابًا على سردٍ لا نهائي، يشبه الذاكرة الشعبية التي لا تُروى كما هي، بل
تتغير مع كل راوٍ. فالجيل الجديد من السرديات الإلكترونية، بتقنياتها التفاعلية، قد
يعيد لنا فكرة "الحلقة"، لكن هذه المرة في هيئة متصفح، حيث القارئ نفسه قد
يصبح الراوي، أو المحرّك الخفي للنص.
لكن، هل تبقى الرواية
رواية؟ أين شخصية الكاتب؟ وأين صوت الذات التي تُشعّ من بين السطور؟ أطرح هذه الأسئلة،
مستحضرًا تحذير الفيلسوف «Byung-Chul
Han» في كتابه «The Transparency Society»:
"حين نطمح
إلى أقصى شفافية، نخسر الغموض، وبالتالي نخسر الفن." هل تُسهم النصوص الإجرائية
في قتل الغموض، أم أنها ببساطة، تنقله إلى مستوى جديد؟
التجريب السردي ليس
جديدًا على الأدب المغربي. نحن أبناء نصوص متشظية، لغات مختلطة، ومخيلة تراثية تفكك
الزمن وتعيد تركيبه كما في "الزهر في ما مضى من الخبر" أو "ألف ليلة
وليلة". لكن المختلف اليوم هو أن الذكاء الاصطناعي قد صار هو الآخر راوياً، لا
يُملّ عليه، بل يقترح، ويتفرع، ويصوغ نهايات متعددة في لحظة واحدة.
إن ما يغري في التوليد
الإجرائي، ليس فقط قدرته على إنتاج النصوص، بل على تفكيك المفهوم ذاته: من هو المؤلف؟
من هو القارئ؟ وهل يمكن أن ينقرض السرد الخطي أمام هذه المصفوفات الذكية؟ في هذا، أستحضر
مقولة
«رولان
بارت.»
الشهيرة: "موت
المؤلف"، لكني أعيد كتابتها هكذا: "ولادة الخوارزمية."
لا أخفي عليكم، ثمة
شيء سريالي في الأمر. وكأن الحكاية، تلك التي رويناها بالأمس في حلقات الأسرة
والساحات العمومية ، باتت تروينا نحن اليوم. تكتبنا. تحركنا كما تحرّك لعبة فيديو لاعبها.
إننا نعيش الآن تجربة سردية تتجاوز الخط، تتجاوز الورق، وتطلب منّا أن نعيد النظر في
مفهوم الرواية كحاوية للحكاية، لا كقالب جاهز.
ومع هذا، أؤمن أن السرد
الإنساني لن يموت، بل سيُولَد من جديد، بألف شكل ولغة وصوت. وربما، كما قال عبد الفتاح
كيليطو: "كل حكاية تُولد من حكاية أخرى"، فليكن التوليد الإجرائي هو هذه
الحكاية الجديدة، التي لن نكتبها وحدنا، لكننا سنظل دومًا نبحث فيها عن أنفسنا.
0 التعليقات:
إرسال تعليق