أعلنت كل من بريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال اعترافها الرسمي بدولة فلسطين عشية انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2025. القرار جاء تتويجاً لتراكم أزمات سياسية وإنسانية جعلت من القضية الفلسطينية مرة أخرى في صلب الاهتمام الدولي. غير أنّ أهمية هذه الاعترافات تتجاوز بعدها الثنائي الفلسطيني-الإسرائيلي لتطال بعمق التوازنات الإقليمية، بما فيها موقع المغرب والعالم العربي في معادلات الشرق الأوسط.
الاعتراف الغربي الجديد
بدولة فلسطين ليس حدثاً معزولاً، بل يندرج ضمن تحولات كبرى في النظام الدولي، حيث بدأت
عدة قوى تعيد النظر في علاقاتها مع إسرائيل، خصوصاً بعد الحرب المستمرة على غزة وتزايد
الضغوط الحقوقية. هذه التحولات تنعكس مباشرة على العالم العربي الذي يجد في هذه الاعترافات
سنداً استراتيجياً لمطالبه التاريخية الداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني.
لكنّ التأثير الإقليمي
سيتخذ أبعاداً متباينة:
بالنسبة للدول العربية
الداعمة علناً للقضية، مثل الجزائر ومصر والأردن، فإنها ستوظف هذه التطورات لتأكيد
شرعية موقفها ورفع سقف الضغط على إسرائيل.
أما الدول التي دخلت
مسار التطبيع مع تل أبيب، كالإمارات والبحرين والمغرب والسودان، فستجد نفسها أمام اختبار
صعب: كيف توازن بين التزاماتها الجديدة تجاه إسرائيل وبين تنامي الاعتراف الدولي بفلسطين؟
المغرب بين الالتزام
بالقضية ومصالحه الاستراتيجية
المغرب، الذي لطالما
أكد دعمه الثابت للقضية الفلسطينية باعتباره الملك محمد السادس رئيسا للجنة القدس،
يجد نفسه اليوم أمام فرصة لتعزيز صورته كفاعل متوازن في المنطقة. فمن جهة، يمكن للمغرب
أن يوظف هذه الاعترافات الدولية لتقوية حجته في الدفاع عن حل الدولتين الذي طالما دعا
إليه الملك محمد السادس في المحافل الدولية. ومن جهة أخرى، فإن الرباط مطالبة بإيجاد
صيغة توفق بين دعمها العلني لفلسطين وبين استمرار علاقاتها مع إسرائيل في إطار اتفاقيات
أبراهام.
على المستوى السياسي،
قد يشكل هذا التحول فرصة للمغرب للظهور كوسيط محتمل بين الأطراف، مستنداً إلى شرعيته
الدينية والدبلوماسية. أما على المستوى الشعبي، فإنّ هذه الاعترافات تمنح زخماً جديداً
للحركات المدنية والأحزاب الوطنية في المغرب التي ترى في القضية الفلسطينية امتداداً
طبيعياً لنضالها التاريخي ضد الاستعمار والاحتلال.
على الصعيد العربي
الأوسع، تعزز هذه الاعترافات خطاب الدول التي ظلت تعتبر أنّ القضية الفلسطينية هي قضية
العرب المركزية. من المتوقع أن تعطي دفعة للمبادرة العربية للسلام التي أُطلقت من بيروت
عام 2002، والتي عرضت على إسرائيل تطبيعاً شاملاً مقابل الانسحاب الكامل من الأراضي
المحتلة والاعتراف بالدولة الفلسطينية.
في المقابل، قد تجد
بعض الأنظمة العربية نفسها في موقف دفاعي، إذ ستُسائلها شعوبها عن مبررات التطبيع مع
إسرائيل في وقت تتزايد فيه الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية. وهذا قد يخلق تناقضاً
واضحاً بين المسارات الرسمية للدول وبين الرأي العام العربي المتمسك بحق الفلسطينيين.
لا يمكن فصل الاعتراف
الجديد عن الصراع الأوسع في المنطقة بين المحاور الإقليمية:
المحور العربي التقليدي
(مصر، الأردن، دول الخليج الأساسية) سيعتبر أنّ الاعترافات تمنحه أداة جديدة للضغط
في المفاوضات المقبلة.
المحور الإيراني والتركي
سيستثمر هذا التطور لتعزيز دعايته بأنه كان دائماً داعماً صلباً للقضية الفلسطينية،
ما يعزز نفوذه في الشارع العربي والإسلامي.
المغرب العربي تحديداً
سيشهد تنافساً جديداً بين الجزائر والمغرب: الأولى ستعتبر الاعترافات الغربية بفلسطين
انتصاراً لخطابها الدائم، بينما سيحاول المغرب إظهار توازنه بين دعم فلسطين والحفاظ
على موقعه كشريك استراتيجي للغرب.
الآثار بعيدة المدى
إذا ما تراكمت هذه
الاعترافات مع مبادرات دبلوماسية أخرى، فإنّها قد تؤدي إلى:
إنهاء عزلة فلسطين
الدولية وفتح الباب أمام عضوية كاملة في الأمم المتحدة.
مراجعة بعض مسارات
التطبيع أو على الأقل تعديل شروطها بما يضمن حقوق الفلسطينيين.
زيادة الضغط على إسرائيل
لإعادة الانخراط في مفاوضات جدية، مع احتمال تصاعد التوتر في الساحة الداخلية الإسرائيلية.
إعادة إحياء الوعي
الشعبي العربي بالقضية الفلسطينية كجزء من معركة التحرر الوطني الممتدة من المحيط إلى
الخليج.
خاتمة: لقد وضعت الاعترافات
الدولية الجديدة فلسطين من جديد في قلب النقاش العالمي، وأثبتت أنّ القضية التي حاولت
بعض الأطراف إقصاءها أو تجميدها لا تزال حية وفاعلة في الضمير الدولي. بالنسبة للمغرب
والعالم العربي، تمثل هذه اللحظة فرصة لإعادة بناء خطاب سياسي موحد، يعيد ربط شرعية
الأنظمة بمدى التزامها بالدفاع عن فلسطين.
وفي النهاية، يمكن
القول إنّ اعتراف بريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال ليس نهاية الطريق، لكنه بداية
مرحلة جديدة من الصراع الدبلوماسي، قد تعيد رسم خريطة المنطقة وتجعل من فلسطين مرة
أخرى معياراً لقياس صدقية السياسات العربية وموقعها في العالم.
0 التعليقات:
إرسال تعليق