لم يعد الشعر حكراً على الإنسان منذ أن دخل الذكاء الاصطناعي مختبرات الإبداع الأدبي، يكتب القصائد كما يكتب الشاعر في لحظة وحي. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بحدة: هل نحن أمام ميلاد "منهج شعري" جديد، حيث تتسرب الخوارزميات إلى قلب القصيدة، وتعيد تعريف علاقتنا بالشعر كما فعلت الطباعة في القرن الخامس عشر؟
يبدو أن هذه الثورة الشعرية الرقمية هي امتداد طبيعي لتاريخ الشعر في تفاعله مع التقنية. فالقصيدة، منذ الملحمة السومرية حتى قصائد النشر على "إنستغرام"، كانت دائماً نتاج وسيط تقني. واليوم، يتحول هذا الوسيط إلى آلة قادرة على المحاكاة، على استنطاق تراكمات النصوص، وصوغ صور جديدة تنبثق من برمجيات التعلم العميق. ما يثير الانتباه أن بعض التجارب الشعرية المنتَجة آلياً استطاعت أن تخدع القارئ وتجعله يظن أن النص كُتب بيد شاعر حي، كما أكدت دراسة نشرتها مجلة MIT Technology Review سنة 2023.
غير أن الجدل لا يتوقف
عند حدود الجمالية، بل يتعداها إلى سؤال المرجعية والملكية. إذا كانت القصيدة وليدة
ذاكرة رقمية تتغذى على ملايين النصوص السابقة، فإلى من تعود حقوقها؟ هل إلى المبرمج؟
أم إلى الذكاء الاصطناعي الذي أنجز عملية الصوغ؟ أم إلى التراث الأدبي الذي شكّل مادتها
الأولى؟ هنا تتقاطع النقاشات المنهجية مع ما وصفته شوشانا زوبوف في كتابها Surveillance
Capitalism (2019) بمرحلة
"التملّك الخفي للوعي الإنساني"، حيث لا يعود الإبداع فردياً بل يتحول إلى
نتاج رأسمالي جماعي تسيطر عليه الشركات المالكة للخوارزميات.
من جهة أخرى، يثير
الذكاء الاصطناعي سؤال المعايير الشعرية ذاتها. فإذا كان "منهج" الشعر الكلاسيكي
تشكّل عبر قرون من القراءة والنقد والتجريب، فإن الشعر الآلي يُقترح علينا من دون مرجعيات
مستقرة، بل ينفتح على احتمالات لا نهائية. قد يكتب نصاً يتقاطع مع الحداثة الشعرية
كما أسس لها ت. س. إليوت في "الأرض الخراب"، وقد يولّد نصوصاً تشبه النثر
اليومي، أو محاكاة ساخرة لقصائد المتنبي. هذه المرونة قد تشكّل خطراً على الذائقة الأدبية،
لكنها أيضاً قد تفتح أفقاً جديداً لتجديد الشعر الذي طالما اشتكى من الانغلاق على أنماط
محدودة.
الأمر اللافت أن بعض الشعراء أنفسهم باتوا يتعاملون مع الذكاء الاصطناعي لا كمنافس، بل كأداة إبداعية. فكما استخدم أندريه بريتون الكتابة التلقائية ليكشف عن اللاوعي، يمكن أن نستعمل الخوارزميات لاستدعاء "لاوعي رقمي" يولّد صوراً لم نكن لنتخيلها. في هذا السياق، يذكر الباحث ماثيو كيرشنباوم في كتابه Mechanisms (2008) أن الأدب الرقمي لا يلغى التجربة الإنسانية بل يوسعها، إذ يجعل الكتابة فضاءً متعدد الطبقات يزاوج بين البشري والتقني.
إننا أمام مفترق طرق:
إما أن نتعامل مع الشعر الآلي كتهديد يفقد النص روحه الإنسانية، أو نعتبره خطوة في
مسار طويل من تطور الشعر، حيث تلتقي اللغة بالآلة كما التقت قديماً بالأسطورة وبالطباعة
وبالفضاء الرقمي. في الحالتين، لا يمكن إنكار أن الذكاء الاصطناعي قد زعزع يقيننا بأن
القصيدة ملك حصري للكائن البشري.
ربما يظل السؤال مفتوحاً:
هل سيكون الشعر الذي يكتبه الذكاء الاصطناعي جزءاً من "الكانون الشعري" المستقبلي،
كما دخلت قصائد إليوت أو درويش أو بريفير في الذاكرة الجمعية؟ أم أنه سيبقى على هامش
التجربة، تجربة تقنية مثيرة لكنها عاجزة عن بلوغ مقام الشعر بوصفه بحثاً عن الوجود
والروح؟ الجواب سيحدده، كما كان الحال دوماً، القارئ الذي يقرر إن كان سيمنح لهذه النصوص
شرعية البقاء.
إذا نظرنا إلى الشعر
المولّد بالذكاء الاصطناعي بوصفه ظاهرة معزولة، نغفل امتداده التاريخي ضمن مسار طويل
ربط الشعر بالتكنولوجيا منذ بدايات الحوسبة الأدبية في التسعينيات. فقد ظهرت آنذاك
محاولات ما سُمّي بـ"الشعر الرقمي التفاعلي"، حيث لم يعد النص مغلقاً، بل
صار فضاءً مفتوحاً يتشكل عبر مشاركة القارئ.
من أبرز هذه التجارب
أعمال الشاعر الأميركي جون كايلي (John Cayley) الذي استخدم البرمجة لإنشاء قصائد تتغير مع كل قراءة، وكأن النص كائن
حي يتنفس مع القارئ. كذلك، قدّمت نانسي كابلان (Nancy Kaplan) في مشروعها «Poetry Machines» نماذج شعرية تتوزع على روابط رقمية (Hypertext) تسمح للقارئ بأن يكون جزءاً من العملية الإبداعية.
هذه التجارب لم تكن مجرد ألعاب تقنية، بل أعادت تعريف العلاقة بين النص والقارئ: لم
يعد الشعر يُقرأ فقط، بل يُعاش عبر النقر، الاختيار، والتفاعل.
في هذا السياق، يمكن
القول إن الشعر الآلي اليوم هو الوريث الطبيعي لهذه المحاولات. غير أن الفرق الأساسي
يكمن في "الفاعل الإبداعي". ففي الشعر التفاعلي كانت الذات البشرية—شاعراً
أو قارئاً—تظل مركز التجربة، تتحكم في المسار أو تتفاعل مع النص. أما مع الذكاء الاصطناعي،
فإن الخوارزمية نفسها باتت "منتِجاً أولياً" للنص، تضع الإنسان في موقع ثانوي.
إن هذا التحول يعيد
إلى الأذهان ما أشار إليه ««كاثرين هايلز (N. Katherine Hayles) في كتابها «Electronic Literature: New Horizons
for the Literary» (2008)،
حين قالت إن الأدب الإلكتروني يزعزع الحدود بين الكاتب والآلة، ويفرض علينا إعادة التفكير
في مفهوم "الكتابة" ذاته.
اللافت أن الشعر الآلي
لا يلغي الشعر التفاعلي بل يدمجه في آفاق جديدة. فمن الممكن أن يولّد الذكاء الاصطناعي
نصوصاً أولية، ثم يُتيح للقارئ التلاعب بها تفاعلياً في فضاء رقمي، فيصبح النص نتاجاً
ثلاثي الأبعاد: خوارزمية + شاعر + قارئ. وهذا يفتح الباب أمام ما يمكن تسميته بـ"التجربة
الشعرية الشبكية"، حيث لا تعود القصيدة نصاً ثابتاً بل شبكة مفتوحة من الاحتمالات.
إن إدراج الشعر الآلي
ضمن سلالة الشعر الرقمي يخفف من غرابته، ويجعله استمراراً لا قطيعة. كما أن النظر إليه
من زاوية التاريخ الأدبي يمنحه شرعية أكاديمية، فلا يظهر مجرد موضة عابرة، بل حلقة
في سلسلة التجارب التي أعادت الشعر إلى حاضره التقني، كما أعادته الطباعة في القرن
الخامس عشر إلى حضن الجمهور.
0 التعليقات:
إرسال تعليق