الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، سبتمبر 23، 2025

محاورات بين فلاسفة ومفكرين معاصرين (4) إيزايا برلين و رامين جهانبگلو: عبده حقي


في أواخر الثمانينيات، حين كان العالم يتأرجح بين انهيار المعسكر الشرقي وصعود موجات جديدة من الفردانية في الغرب، جلس الفيلسوف البريطاني الروسي الأصل إيزايا برلين إلى محاور إيراني شاب، رامين جهانبگلو، في سلسلة من الحوارات التي جمعت لاحقاً في كتاب بعنوان Conversations with Isaiah Berlin (1989). هذه الحوارات قد شكلت نافذة عميقة على فلسفة برلين في الليبرالية والتعددية، وعلى طريقته في التفكير في "الشرط الحديث" الذي يفرض على الإنسان أن يعيش وسط قيم متناقضة ومثالية يصعب التوفيق بينها. لقد أعاد برلين عبر هذه المحادثات تأكيد رؤيته للحرية بوصفها فضاءً ضرورياً للتنوع، لا بوصفها مطلقاً مجرداً، وأبرز أن الصراع بين القيم جزء لا يتجزأ من التجربة الإنسانية الحديثة.

يمثل هذا الحوار بين برلين وجهانبگلو مثالاً نادراً على التقاء جيلين وثقافتين، حيث يسائل فيلسوف من العالم غير الغربي أحد أبرز منظّري الليبرالية الغربية. ومن خلال ذلك، يفتح النقاش على أبعاد فلسفية وسياسية تتجاوز حدود الغرب ذاته. فقد كان برلين يرى أن قيم الحرية، والعدالة، والمساواة ليست مجرد شعارات، بل هي في كثير من الأحيان مبادئ تتعارض وتتصارع، وأن من واجب الفكر السياسي أن يعترف بهذا التوتر بدلاً من محاولة محوه تحت راية "الحقيقة النهائية".

هذا الاعتراف بما يسميه "التعددية القيمية" هو ما يجعل برلين أحد المفكرين الأكثر تأثيراً في الفكر الليبرالي المعاصر. فخلافاً للتقاليد التي رأت أن الفلسفة تسعى إلى النظام والوحدة، كان برلين يؤكد أن التناقض هو قلب التجربة الإنسانية. بهذا المعنى، الليبرالية عنده ليست إيديولوجيا مغلقة، بل إطار يتيح للأفراد والجماعات أن يعيشوا جنباً إلى جنب رغم اختلافاتهم، دون الحاجة إلى إذابة تلك الاختلافات في نموذج قسري. وهنا يمكن القول إن برلين قدّم دفاعاً فلسفياً عن التعددية الثقافية والسياسية قبل أن تصبح موضوعاً ساخناً في التسعينيات والعقد الأول من الألفية الجديدة.

من أبرز ما يميز هذه الحوارات هو أسلوب برلين نفسه: فهو لا يتحدث كمنظّر متعالٍ أو كصاحب عقيدة صلبة، بل كإنسان يعترف بحدود العقل وبمحدودية قدرتنا على ترتيب القيم في نسق هرمي نهائي. هذه النزعة الإنسانية، التي تميل إلى التشكيك في المطلقات، جعلت منه صوتاً نقدياً في مواجهة كل النزعات الشمولية، سواء أتت من الماركسية أو من النيوليبرالية الصلبة. وفي هذا السياق، تكتسب أحاديثه مع جهانبگلو أهمية خاصة، لأن الأخير يمثل جيلاً قادماً من فضاءات فكرية وسياسية خارج أوروبا، حيث يُطرح سؤال الحرية على محك الاستبداد والتقاليد الراسخة.

الليبرالية، في تصور برلين كما يظهر في هذه المحاورات، ليست فقط نظاماً سياسياً، بل هي أخلاقيات للعيش في عالم متغير. في مواجهة "الشرط الحديث"، حيث تختلط القيم وتتعدد الولاءات، يطرح برلين فكرة "الحرية السلبية" كمساحة ضرورية تُجنب الفرد هيمنة الدولة أو أي سلطة مطلقة. غير أن هذه الحرية ليست هدفاً نهائياً، بل شرطاً أولياً يسمح بازدهار التنوع البشري. إن الاعتراف بأن القيم تتنازع ولا يمكن حسمها في انسجام نهائي، يجعل من الحرية الشكل الوحيد الممكن للعيش المشترك.

الحوار أيضاً يسلط الضوء على الجانب التاريخي في فكر برلين. فهو يعود باستمرار إلى أمثلة من عصر التنوير، والرومانسية، والثورات الكبرى في أوروبا، ليُبين كيف أن تطور الأفكار كان دائماً مرتبطاً بالصراع بين مفاهيم متناقضة. هذا الحس التاريخي هو ما يمنحه القدرة على قراءة العصر الحديث بوصفه استمراراً لصراعات لم تُحسم بعد. هنا يلتقي الفكر الفلسفي مع الوعي السياسي، في إطار يجعل من الليبرالية أفقاً مفتوحاً، لا حقيقة منجزة.

من الناحية الرمزية، تُظهر هذه الحوارات أن الفكر الليبرالي ليس حكراً على الغرب، بل يمكن أن يُعاد طرحه ومساءلته من منظور عالمي. فجهانبگلو، القادم من إيران التي شهدت ثورة دينية قلبت موازين السياسة والفكر، كان يحاور برلين من موقع الباحث عن مخرج للحداثة خارج الأطر الغربية الصرفة. وبهذا المعنى، يشكل الكتاب وثيقة فكرية عن "حوار الحضارات" قبل أن يُصبح هذا التعبير شعاراً سياسياً متداولاً.

إن قيمة هذه المحادثات لا تكمن فقط في إعادة صياغة أفكار برلين، بل في الطريقة التي تُظهر بها الحاجة المستمرة إلى التفكير في الليبرالية كتجربة غير مكتملة، مرتبطة دوماً بالتاريخ والتعدد والاختلاف. فالحرية، كما يقول برلين، ليست وعداً بالخلاص، بل ضمانة لعدم سقوطنا في براثن الشموليات. والتعددية ليست مشروعاً فوضوياً، بل اعتراف واقعي بأن الحياة الإنسانية لا تحتمل التوحيد القسري.

في النهاية، يمكن القول إن Conversations with Isaiah Berlin ليست مجرد حواراً بين فيلسوف عجوز وتلميذ شاب، بل شهادة على ضرورة أن يبقى الفكر السياسي منفتحاً على الأسئلة الصعبة: كيف نعيش معاً رغم اختلاف قيمنا؟ كيف نُصون الحرية دون أن نقع في فوضى؟ وكيف نُعترف بالآخر دون أن نُذيب أنفسنا فيه؟ أسئلة لا تزال صالحة حتى اليوم، وربما أكثر إلحاحاً في عالم يزداد تعقيداً وانقساماً.

0 التعليقات: