حين كنتُ أتابع في إحدى أمسيات الشتاء قراءة رواية "الأشجار واغتيال مرزوق" لعبدالرحمان منيف ، استوقفني ذلك النبض الخفي الذي جعل الأشجار تتكلم والهواء ينوح كنشيد احتجاجي. شعرت أن الرواية لم تُكتب فقط بالحبر، بل بروح الأرض المتعبة. ولأني كاتب مغربي مشغول بالتحولات المناخية بقدر انشغالي بتحولات اللغة، بدأتُ أتساءل: هل يمكن لآلة، مهما بلغت من دقة، أن تكتب بهذه الحميمية؟ وهل بوسع الذكاء الاصطناعي أن يبتكر أدباً بيئياً يُلهب الضمائر ويقود إلى الفعل؟
لقد أصبحت الكتابة
البيئية اليوم ـ أو ما يُعرف بـ"الإيكوفكشن" ـ أكثر من مجرد جنس أدبي، إنها
مقاومة صامتة تتحدث باسم الكائنات المنهكة، وتفضح تواطؤ الإنسان مع الانقراض. في الماضي،
كتب إدوارد أبي عن الصحارى كأنها أرحام كونية، وصدحت رايتشل كارسون في «الربيع الصامت»
بجرس الإنذار الأول قبل عقود من قمة باريس للمناخ. واليوم، في خضم هذا التحول الرقمي،
يتقدم الذكاء الاصطناعي كفاعل جديد في الحقل السردي، ليس بوصفه أداة فقط، بل بوصفه
مؤلفاً محتملاً.
لكن هل يمكن حقاً أن
نُعوّل على خوارزميات تُدرّبها نصوص سابقة لكي تبتكر خطاباً بيئياً نابضاً؟ هل تستطيع
لغة مبنية على التكرار الإحصائي أن تُنتج سرديات تنطوي على رؤية أخلاقية عميقة وموقف
من العالم؟
في تجربة نُشرت مؤخراً
بمجلة Nature Machine Intelligence، قام باحثون بتدريب نموذج
لغوي على آلاف النصوص البيئية بهدف توليد قصص قصيرة عن تغيّر المناخ. وكانت النتيجة
مدهشة لغوياً، لكنها فشلت في إثارة الوجدان. النصوص بدت مصقولة، لكن بلا حرارة، كأنها
وصفات طبية لحالات طارئة لا تجد من يتألم بها. الذكاء الاصطناعي، في هذه المرحلة على
الأقل، يكتب عن الكارثة كما يكتب المهندس عن انهيار جسر: دقيق في التشخيص، لكنه خالٍ
من الشعور بالخسارة.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار
أن الأدب البيئي نفسه يعاني من أزمة انتشار. رغم وفرة النصوص الرائعة، فإن صداها في
الوعي العام يظل محدوداً، وربما هنا يكمن دور الذكاء الاصطناعي: لا كمؤلف، بل كوسيط،
كأداة قادرة على تخصيص السرد للقارئ، وتطويع الحكاية بحسب مزاجه البيئي، وسنه، وموقعه
الجغرافي. وهنا يمكن استحضار مشروع "Cli-Fi 2.0" الذي
اقترحه باحثون من جامعة أوكسفورد، حيث يتم توليد قصص مناخية بناءً على بيانات محلية،
فيتحول القارئ من مستهلك إلى طرف في القصة، وتغدو الرواية البيئية تجربة معيشة لا مجرد
حكاية تُقرأ.
ثم إن الذكاء الاصطناعي،
رغم كل تحفظاتي، قد يكون حليفاً غير متوقع في إيصال الرسائل البيئية إلى فئات لم تكن
يوماً معنية بالأدب. تخيّل أن يُستخدم في كتابة سيناريوهات ألعاب بيئية، أو مسلسلات
قصيرة في تيك توك تروي قصة نهر ميت بلغة جيله، أو قصائد قصيرة تُترجم فورياً إلى لهجات
محلية. هنا لا يعود السؤال: هل يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يكتب أدباً بيئياً؟ بل:
كيف يمكننا نحن، الكتّاب، أن نُوجّه هذه التقنية لتحمل رسائلنا؟
لا أنكر أني أشعر بالخوف
من هيمنة الأتمتة على عالم الحكاية. ثمة شيء في الكتابة لا يُمكن تقليده: ذلك التوتر
الوجودي، تلك الشروخ التي يخلفها الحزن الشخصي، أو التعلق البري بأرض مهددة بالجفاف.
لكني، في المقابل، أؤمن أن الأدب ـ كالغابة ـ لا ينقرض، بل يتحور. وما الذكاء الاصطناعي
إلا بذرة جديدة، علينا أن نقرر إن كنا سنزرعها في تربة الوعي، أم نتركها تنمو في مختبرات
الشركات الكبرى.
الأدب البيئي يحتاج
إلى ثورات، لا إلى ترميمات. ونحن، في المغرب، نعيش في تماس مباشر مع آثار تغيّر المناخ:
من تصحر سوس إلى جفاف الحوز، ومن انقراض الأنواع إلى مواسم مطر تُهدد الفلاحة والسلم
الاجتماعي معاً. إن لم نكتب عن هذه الأوجاع بلغات متعددة، ومنها لغة الخوارزم، فإن
الصمت سيكون خيانة مزدوجة: للكتابة، وللأرض.
أعود إلى سؤال البداية،
لا لأجيب عليه، بل لأعقده أكثر: هل يمكن للآلة أن تبكي عندما ترى شجرة تُقطع؟ إن استطاعت،
فربما يمكنها أن تكتب عن ذلك، وإن لم تستطع، فلنكتب نحن عنها… وبسرعة، قبل أن يُمحى
أثرها من الذاكرة الرقمية والواقع معاً.
0 التعليقات:
إرسال تعليق