الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، مايو 04، 2025

الخوف من الغياب: حين تصير الحياة رقماً على شاشة" عبده حقي


بصفتي مغربياً نشأ في زمن ما قبل الهواتف الذكية، وأمضى شبابه في مقاهٍ تختلط فيها رائحة النعناع بصوت المذياع، أجد نفسي اليوم أُطارد شبحاً لا مرئيّاً يُدعى FOMO، أو ما يُعرف بـ"الخوف من تفويت الشيء"، ذلك الشعور الذي تغذيه خوارزميات شبكات التواصل الاجتماعي كمن يُلقم النار هشيماً.

لقد تحوّل هذا الخوف إلى شكل جديد من القلق الوجودي. لم نعد نخشى الموت فقط، بل نخشى أيضاً الغياب عن حدث، عن صورة، عن قصة قصيرة تُنشر في لحظة، عن تعليق نُسي فيه اسمنا، عن أمسية لم نُدعَ إليها. وكأننا، في زحمة هذا التدفق الرقمي، نعيش في اقتصاد الانتباه أكثر مما نعيش في المجتمع. وهو ما تؤكده شوشانا زوبوف في كتابها «"عصر الرأسمالية المراقبة  « (The Age of Surveillance Capitalism)، حين تشير إلى كيف تتحوّل تجاربنا الإنسانية إلى بيانات تُستثمر لتوجيه سلوكنا.

لقد تتعمّق «فومو» في لاوعينا، حتى صار حافزاً لاستهلاك المحتوى ومبرراً لإدمان التصفح. إذ لم يعد الدخول إلى فيسبوك أو إنستغرام مجرّد تسلية، بل طقساً من طقوس الطمأنينة الزائفة، نطمئن فيه على "وجودنا" عبر عدد الإعجابات والتفاعلات. كل إشعار نراه على الشاشة هو بمثابة دليل صغير على أننا ما زلنا على قيد الحياة الرقمية.

المفارقة المؤلمة أن هذا الخوف من الغياب يؤدي إلى الغياب نفسه؛ غيابنا عن الحاضر، عن الأحاديث الحقيقية، عن المشي دون هاتف، عن النظر في عيون الناس. صارت علاقتنا بالزمن مشوّشة: نعيش اللحظة ونوثقها في الآن ذاته، نخاف من نسيانها فنسجنها في قصة قصيرة (story) تزول بعد 24 ساعة، كما لو أننا لا نثق في الذاكرة إلا إذا تم ترميزها رقمياً.

ما يُعزّز من خطورة هذا الوهم هو تحوّل "النجاح" إلى معطى بصري. المشاهير والمؤثرون يعرضون لنا صوراً معدّلة لحيواتهم اليومية، لكنها، وإن بدت طبيعية، تخضع لرقابة ذاتية صارمة، وإنتاج بصري محسوب. فالفطور على الشاطئ، والصداقة المثالية، والحب الذي لا يشيخ، كلها أجزاء من «performance» مدروسة، كما يقول

 «إرفينج جوفمان»  في نظريته عن تقديم الذات في الحياة اليومية. هذا المشهد المصطنع يخلق لنا عتبة خادعة للمقارنة، فنقيس أنفسنا على أوهام دون أن ندرك ذلك.

ولا ننسى هنا الدور الذي تلعبه المنصات الرقمية في تغذية هذا الشعور. فالخوارزميات لا تكترث بصحتنا النفسية، بل تعمل على تعزيز مشاعر القلق والغيرة كي تبقينا متصلين لأطول وقت ممكن. وقد أظهرت دراسة نشرتها «Harvard Business Review» أن كثافة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ترتبط بزيادة مشاعر القلق والاكتئاب، خاصة لدى المراهقين والشباب.

ومن موقعي كمثقف عربي يعيش في مفترق زمنيّ بين تراث الشفاهة وموجات الذكاء الاصطناعي، ألاحظ أن مجتمعاتنا لم تهيئ بنيتها الثقافية والنفسية بعد لهذا التحول. فغياب التثقيف الرقمي، والتنشئة على قيم الوعي الذاتي، جعل الأفراد أكثر عرضة لهشاشة نفسية رقمية. نحن لم نتعلّم كيف نغيب عن الشاشة دون أن نشعر بالذنب. لم نربِّ أنفسنا على أن الصمت أيضاً تفاعل، وأن الانسحاب أحياناً شكل من أشكال المقاومة.

لقد آن الأوان لنطرح سؤالاً أكثر عمقاً من مجرد: «كيف أكون حاضراً على الإنترنت؟» لننتقل إلى: «ما معنى الحضور الواقعي؟» وهل الحضور على المنصات يعني بالضرورة الوجود الفعلي؟ وهل يمكن للغياب الرقمي أن يكون، في بعض الأحيان، طريقاً نحو حضور روحي وفكري أصدق؟

لقد علمتنا التجربة المغربية أن بعض الحكماء كانوا ينسحبون إلى الظل ليصوغوا مواقفهم. كان عبد الله العروي، مثلاً، يكتب نصوصه متأنياً بعيداً عن ضجيج اليوميات. وفي المقابل، نحن نعيش اليوم في زمن تُقاس فيه القيمة بسرعة البثّ وبتوقيت الذروة «prime time» ، زمن يتوه فيه العمق وسط زحام السطحيات.

إن فخ «فومو»  ليس فقط فخاً تكنولوجياً، بل هو مرآة لهشاشة الإنسان الحديث. وربما يكون الحل في إعادة الاعتبار لـ"الاختيار الواعي للغياب"، كتربية على الانتباه لا للهاتف، بل للنفس، للقراءة المتأنية، للعلاقات التي لا تحتاج إلى توثيق كي تكون حقيقية.

فحين ننجو من هذا الخوف، نكتشف أن الوجود ليس صورة، بل أثر. وأن أجمل اللحظات هي تلك التي لم نشاركها مع أحد، إلا مع أنفسنا.

0 التعليقات: