في عالم يتنازع فيه الناس على الروايات، وتغمر فيه الشاشات بالعناوين الصارخة والأرقام المنفصلة عن سياقاتها، يبرز كتاب "فن الصدق" للكاتب والصحفي والخبير البصري ألبرتو كايرو كأحد المراجع الأساسية لفهم كيف يمكن للبيانات أن تخدم الحقيقة لا أن تحجبها. في هذا العمل العميق والعملي في آن واحد، يعيد كايرو تعريف العلاقة بين الصحافة والبيانات، مذكرًا القراء بأن الرسوم البيانية، على غرار الكلمات، يمكن أن تكون صادقة أو مضللة، واضحة أو مشوشة، متجردة أو محملة بالأيديولوجيا.
ينتمي الكتاب إلى حقل
آخذ في التوسع يعرف بـ "صحافة البيانات"، وهو المجال الذي يجمع بين المهارات
الصحفية التقليدية وأدوات التحليل الإحصائي والتصميم البصري. كايرو، الذي درّس في جامعات
مرموقة مثل ميامي وكاتالونيا، وصاحب تجربة طويلة في تصميم الإنفوغرافيك، يكتب من موقع
الممارس العارف، لا المنظّر المجرد. هذه الصفة تمنح الكتاب عمقه وقوته: إنه مكتوب بلغة
مبسطة دون أن يفقد حسه الأكاديمي.
ينطلق المؤلف من مبدأ
أساسي يتمثل في أن «الصدق ليس نقيض الجمال». فالرسوم البيانية الجميلة ليست ترفًا بصريًا،
بل وسيلة لفهم الحقيقة. يقول كايرو إن الغاية من التصور البياني ليست إبهار القارئ،
بل خدمته؛ مساعدته على استيعاب الظواهر المعقدة، كشف الأنماط، وربط الأرقام بالواقع.
ولذلك فهو يضع خمسة مبادئ مركزية للتصور البياني الجيد: أن يكون صحيحًا، واضحًا، دقيقًا،
مناسبًا، وجذابًا.
من القضايا اللافتة
التي يعالجها الكتاب أن الخطأ لا يكمن فقط في تزوير البيانات أو اجتزاء المعطيات، بل
أيضًا في التصميم السيئ. مثال ذلك: رسم بياني يبالغ في ارتفاع الأعمدة لإيهام القارئ
بوجود فروق كبيرة بين فئات متقاربة، أو استخدام ألوان تبعث رسائل نفسية خاطئة. وهنا
يبرز الفرق بين "التحليل الصادق" و"البروباغندا المتخفية في ثوب علمي".
الكتاب لا يغفل الجانب
الأخلاقي لصناعة الرسوم البيانية. إذ يحذر كايرو من ميل بعض الصحفيين أو صناع القرار
إلى استخدام البيانات كأداة دعائية، لا استقصائية. فالرقم، حين يُقدّم مجردًا عن سياقه،
يصبح وسيلة للإقناع لا للاكتشاف. ويستشهد الكاتب بعدة حالات إعلامية أسيء فيها استخدام
البيانات لتبرير سياسات عامة، أو للتقليل من شأن كوارث إنسانية.
اللافت أن كايرو لا
يتحدث من برج عاجي، بل يعترف بصعوبة تحقيق "الصدق البياني" في زمن السرعة
وضغط النشر الفوري. ويطرح حلولًا عملية لهذه المعضلة، منها تدريب الصحفيين على التفكير
النقدي، وإشراك المصممين في غرف الأخبار، وضرورة مراجعة المواد البصرية من قبل مختصين
في علم الإحصاء والسيميولوجيا البصرية. كما يشجع على إرفاق المصادر بكل رسم بياني،
وشرح منهجية التحليل المستخدمة فيه، لأن الشفافية شرط من شروط الصدق.
في الفصل الخاص بالخرائط،
يفتح كايرو نافذة على التاريخ، مذكرًا بأن الخرائط كانت منذ القدم أداة سياسية بامتياز.
يستعرض أمثلة من خرائط استعمارية، وأخرى استخدمت في سياقات بيئية وصحية، ويشرح كيف
أن طريقة عرض الخريطة – من اختيار الإسقاط الجغرافي إلى مقياس الألوان – يمكن أن تغير
الرسالة جذريًا. إن الخريطة، بحسب تعبيره، ليست "تمثيلًا موضوعيًا للعالم"،
بل "رؤية انتقائية لواقع معقد".
يتعاطى كايرو أيضًا
مع البعد التعليمي للرسوم البيانية. ففي عالم يعج بالمعلومات، تصبح القدرة على قراءة
الرسوم البيانية مهارة أساسية مثل القراءة والكتابة. ولهذا يدعو إلى إدراج "محو
الأمية البصرية" ضمن المناهج الدراسية، مؤكدًا أن المواطن الواعي اليوم لا يحتاج
فقط إلى معرفة القواعد الديمقراطية، بل أيضًا إلى فهم كيف تُصنع الحقيقة بالأرقام.
من مميزات الكتاب أيضًا
كثافة الأمثلة التي يقدمها من مجالات متنوعة: من الاقتصاد والصحة، إلى السياسة والمناخ.
هذه الأمثلة لا تخدم فقط توضيح المفاهيم النظرية، بل تكشف حجم التحدي الذي يواجهه كل
من يشتغل على البيانات: كيف نروي الحقيقة دون أن نخنقها بالتفاصيل؟ كيف نستخدم التقنية
دون أن نسقط في فخ التجريد البارد؟
في ختام الكتاب، يتركنا
كايرو مع سؤال يطارد كل من يعمل في مجالات الإعلام أو التعليم أو السياسة: «هل نحن
نخدم الحقيقة أم نختبئ خلف الأرقام؟» وهو سؤال يزداد إلحاحًا في زمن الذكاء الاصطناعي،
حيث يمكن لأدوات متقدمة أن تنتج رسومًا مذهلة ولكن بلا روح، بلا صدق، وربما بلا هدف
سوى التأثير.
"فن الصدق" ليس مجرد دليل مهني لمصممي
الرسوم البيانية، بل بيان إنساني في الدفاع عن المعرفة النزيهة في وجه التزييف البصري.
إنه تذكير بأن الحقيقة ليست فقط في ما يُقال، بل في الطريقة التي نختار بها قولها،
ورسمها، وتلوينها.
0 التعليقات:
إرسال تعليق