لم يكن دييغو مارادونا مجرّد نجم كروي يتقافز بين المدافعين كما تتقافز الفراشات بين ألسنة اللهب، بل كان أسطورةً تجسدت فيها هشاشة الإنسان وقوة الخيال، عبقريًا لا يعرف الطريق المستقيم نحو الهدف بل يختاره مراوغةً ولعبًا ودهشة. بهذا الوعي المركب بمكانته، جاءت فكرة كتاب *"مراوغات غير متوقعة"*، لتجعل من وداع مارادونا مدخلًا لأسئلة ثقافية عن الرياضة والأدب، وعن العلاقة المتوترة والغامضة بين الجسد واللغة، وبين الملعب والصفحة البيضاء.
الكتاب الذي صدر مؤخرًا
عن "الآن ناشرون وموزعون" في عمّان، بتحرير الكاتب العُماني سليمان المعمري،
لا يكتفي بتأبين أسطورة الكرة، بل يضع يده في الجرح الذي طالما قسّم النخب: هل الأدب
أرفع من كرة القدم؟ أم أن الأخيرة هي الشعر الذي لا يُكتب؟ يحاول المؤلفون، كلٌّ من
زاويته، أن يردموا تلك الهوة المفتعلة بين الثقافة والرياضة، واضعين مارادونا كجسر
نابض بين العالمين.
في ورقته الافتتاحية،
يستعير د. حسن مدن من بابا الفاتيكان وصفه لمارادونا بأنه "شاعر على العشب"
ليؤسس لرؤية تقول إن الموهبة الخارقة حين تقترن بالهشاشة تصبح مادة روائية بامتياز،
بل تمثّل حالة شعرية تلامس المخيلة وتستدعي اللغة، وليس فقط الكرة. من مارادونا كمُلهم
إلى الأرجنتين كرحمٍ أدبي للعبة، يقودنا الكاتب المصري محمد الفولي إلى ما يسميه
"الأدب الكروي"، حيث لا تعود الرواية مجرد سرد بل تصبح مباراة مكتوبة، هدفها
تخليد لحظة فنية قد تتجاوز هدفًا في مرمى إنجلترا.
الفولي، في مداخلته،
يُفرق ببراعة بين ثلاثة أنواع من الكتابة الكروية: ما يُعرف بأدب كرة القدم، ثم كرة
القدم كما تظهر عرضًا داخل عالم الأدب، وأخيرًا الكتب التعليمية والتثقيفية عن الكرة.
وبهذا التصنيف، يبرز الغياب العربي الحاد عن هذا النوع من الأدب، وهو ما يتوقف عنده
الصحفي المصري سيد محمود، الذي يُقرّ بأن الكتابة الكروية عربيا لم تتحول بعد إلى مشروع
أدبي متكامل، رغم أن الكرة العربية ليست طارئة ولا غريبة عن السياق الاجتماعي والسياسي،
مستعرضًا علاقات نجيب محفوظ وغيره من الأدباء المصريين بهذه الرياضة الجماهيرية.
ومن مصر إلى عُمان،
حيث تمسكت الباحثة منى حبراس بسؤال محلي: كيف ظهرت كرة القدم في السرد العماني؟ وقامت
بتفكيك ذلك الحضور إلى أربعة أشكال، تبدأ من الإشارة العارضة إلى اللعبة، وتصل إلى
نصوص تتخذ من حدث كروي أو لاعب أيقوني محورًا سرديًا، مثل شخصية غلام خميس، الذي تصفه
بـ"مارادونا عمان". حضور متنوع كشف عن محاولات أدبية عربية لتأثيث الملعب
بالكلمات، لا باللاعبين فقط.
ولأن كرة القدم لا
تعيش فقط في الأقدام بل أيضًا في العقول والأسئلة، يُنهي سليمان المعمري هذا الجهد
الجماعي بورقة تأملية يسائل فيها الطبيعة المزدوجة لهذه اللعبة: هل هي طقس سلام أم
احتفالية بعنف رمزي؟ سؤال يبقى مفتوحًا، كما تبقى المراوغة فعلًا إبداعيًا يقبل التأويل.
أما الكاتب السوداني
أمير تاج السر، فاختار أن يركض خارج الملعب قليلاً، متتبعًا كيف تتسرب الثقافة إلى
عوالم الكرة، خاصة في اللحظات الكبرى مثل كأس العالم، حيث تتصادم ثقافات الشعوب لا
في السياسة أو الحرب، بل في ركلة جزاء، أو في نشيد وطني يُعزف على العشب.
هكذا، إذًا، لا يقف
كتاب *"مراوغات غير متوقعة"* عند حدود التوثيق أو التأريخ لمارادونا، بل
يذهب أبعد من ذلك: يعيد تشكيل العلاقة المعقدة بين الأدب والرياضة. فكما يحتاج الكاتب
إلى قلمه ومخيلته، يحتاج اللاعب إلى لحظة إلهام ليمرر، يراوغ، ثم يُدهش.
لقد نجح هذا العمل
الجماعي، الذي رأت فيه مؤسسة "بيت الزبير" مناسبة ثقافية بامتياز، في جعل
وداع مارادونا لحظة تأمل لا في خسارته فحسب، بل في تلك الأسوار التي شيدناها طويلاً
بين الثقافة والجسد، بين الفن واللعب، بين الكلمة والهدف. فالملعب قد يكون صفحة بيضاء،
ومارادونا، بموهبته الجارحة، لم يكن إلا شاعرًا بلغة القدم.
0 التعليقات:
إرسال تعليق