تبدو الكتابة المغربية اليوم بمثابة مرآة مشروخة تعكس التصدعات العميقة التي يعرفها المجتمع في مختلف مجالاته. ومن خلال تأمل مجموعة من العناوين الصادرة حديثًا عن كتّاب مغاربة، تتبدّى لنا خريطة واسعة من الاهتمامات، تتوزع بين القلق السياسي، والسؤال الثقافي، والأزمة التعليمية، والوجدان الإنساني، وانكسارات الحلم الجماعي.
تطفو قضية السياسة والحقوق على السطح بقوة، وكأن الكاتب المغربي لم يعد يستطيع تجاهل التوترات المتزايدة داخل الحقل العام. فهناك اهتمام واضح بمسائل الخصوصية، ودستورية القوانين، واختلالات تدبير الشأن العام، وخرق الحقوق الفردية والجماعية. وكأن الكتابة هنا تتحول إلى شكل من أشكال المقاومة الرمزية، تسائل السلطات، وتنتصر للفرد في زمن تعاظمت فيه أجهزة الرقابة والقمع الناعم. إنه وعي ينتبه إلى أن البناء الديمقراطي، مهما بدت واجهاته مزخرفة، يعاني من تصدعات قد تؤدي إلى انهياره ما لم يُرمم بمطرقة النقد الجريء.
وفي مقابل هذا الهم
السياسي، نلحظ انشغالًا فكريًا بمصير الثقافة المغربية، وأفقها المستقبلي. يتبدى ذلك
في الكتابات التي تتناول التحولات القيمية، علاقة المثقف بالسلطة، تحديات الهوية الثقافية،
ورهانات الحداثة. فالانتقال من التجديد إلى التحديث لم يعد مجرد شعار، بل أضحى ضرورة
تفرضها التحولات العالمية المتسارعة. يبدو المثقف المغربي هنا كمن يمشي على خيط رفيع،
بين حلم حداثة مندمجة في العولمة، وخوف من ذوبان الذات في بحر الثقافات الطاغية.
أما الهم الاقتصادي،
فهو يحضر من خلال مقاربات دقيقة تسائل أثر السياسات المالية الدولية على الاقتصاد المغربي،
وتكشف عن علاقات غير متكافئة ترهن القرار الاقتصادي الوطني. تظهر هنا حساسية عالية
تجاه رهانات التنمية، ووعي بأن الاقتصاد لم يعد مجرد أرقام وإحصاءات، بل أصبح ميدانًا
لصراع الإرادات والسياسات التي تمس حياة المواطن اليومية في الصميم.
في خضم هذه الانشغالات
الكبرى، يظل التعليم حاضرًا كجرح مفتوح. تتعالى الأصوات متهِمةً السياسات المتعاقبة
بتجريف المدرسة العمومية، وتحويلها إلى مصنع لإنتاج الفشل. الحديث عن نزيف التعليم،
والعنف المدرسي، وأزمة القيم داخل الفضاء التربوي، يعكس قناعة راسخة بأن أي مشروع نهضوي
حقيقي لا يمكن أن يتحقق دون إصلاح تربوي جذري، يعيد للمؤسسة التعليمية دورها التاريخي
كمحضن لإنتاج الإنسان المواطن.
وتبقى قضايا الهوية
واللغة من الرهانات الساخنة التي تلهب الحبر المغربي. فبين الدفاع عن الأمازيغية، واستعادة
الذاكرة الجماعية، وتفكيك البنيات التقليدية السلفية، يبدو أن الكتابة تحاول إعادة
رسم الخريطة الرمزية للانتماء. إنها معركة تأويلات بين من يتمسك بجذور ضاربة في عمق
التاريخ، ومن ينظر إلى المستقبل كفرصة لصياغة هوية مغربية مرنة، متصالحة مع تنوعها.
وإذا كانت السياسة،
والاقتصاد، والتعليم، والهوية، هي المحاور الكبرى التي تشتغل عليها الكتابة المغربية
المعاصرة، فإن الوجدان الفردي لم يغب عن المشهد. نلمح ذلك في النصوص التي تستدعي مدن
الذاكرة مثل فاس ومراكش، أو تتغنى بأطياف الحب والحنين، أو تغوص في متاهات التمني والهذيان،
حيث تصبح الكتابة ملاذًا داخليًا يحمي الذات من قسوة العالم. إنه نزوع نحو شعرنة الحياة،
حين تغدو الكلمات وسيلة لترويض الوحشة الوجودية.
ولأن المغرب، كغيره
من بلدان الجنوب، يعيش ضمن إحداثيات عولمة تكنولوجية كاسحة، فقد برزت أيضًا تساؤلات
نقدية حول أثر التكنولوجيات الحديثة، والممارسات السلطوية الرقمية، وخطاب الكراهية
الذي تذكيه وسائل التواصل الاجتماعي. الوعي بهذه التحديات الجديدة يكشف عن كتابة متيقظة،
لا تكتفي بتشخيص الأعراض، بل تسعى إلى استكناه جوهر التحولات التي تعصف بالعالم المعاصر.
ومن بين كل هذه الاهتمامات،
تطل مسألة الصراع الإقليمي، وخاصة نزاع الصحراء المغربية، بوصفها قضية مركزية تحظى
بمتابعة دقيقة. تنفتح الكتابات على تحليل مواقف القوى الدولية، واستراتيجيات المناورة
الدبلوماسية، وضرورة التصدي للأكاذيب الدعائية، بما يثبت أن الدفاع عن القضايا الوطنية
جزء من المشروع الثقافي للمثقف المغربي.
هكذا، بين أسئلة السياسة
وأشواق الثقافة، بين آلام المدرسة وأحلام المدينة، بين هواجس الهوية وتحديات العولمة،
يتشكل المشهد الكتابي المغربي في هذه اللحظة. كتابة تارة تئن تحت وطأة الإحباط، وتارة
تحلق بأجنحة الأمل، لكنها تظل دائمًا حية، متمردة، ومؤمنة بأن الكلمة هي آخر الحصون
التي يجب الدفاع عنها.
ربما لم تعد الكتابة
المغربية تحلم، كما كانت تفعل ذات يوم، بتغيير العالم دفعة واحدة، لكنها لا تزال تراهن،
بإصرار هادئ، على إيقاظ الضمائر، وإشعال شموع صغيرة في ليل الانهيار الكبير. فأن تكتب،
في مغرب اليوم، هو أن تعلن انحيازك للمعنى في زمن التفاهة، وأن تؤمن، رغم كل شيء، بأن
الحلم لا يموت بل يتجدد مع كل جيل يجرؤ على الحلم.
0 التعليقات:
إرسال تعليق