حين يتحدث مارك زوكربيرج عن مستقبل البرمجة، يصمت كثيرون للاستماع إليه . ليس فقط لأنه على رأس واحدة من أكبر شركات التكنولوجيا في العالم، بل لأنه غالباً ما يرسم بوضوح ملامح ما سيصبح قريباً واقعاً عاماً. وفي مقابلته الأخيرة، بدا مؤسس "ميتا" كمن يكتب شهادة نهاية حقبة المبرمج التقليدي، معلناً عن تحول جذري في كيفية إنتاج الشيفرات البرمجية.
زوكربيرج لم يكن هذه المرة يتحدث عن تحسينات سطحية أو تحديثات صغيرة، بل عن قفزة نوعية: أدوات الذكاء الاصطناعي – حسب قوله – ستتولى قريباً مهمة إنتاج معظم الأكواد التي تطوّرها الشركة، في غضون عام إلى عام ونصف. ولم يكن يشير إلى مساعدات على غرار "الإكمال التلقائي"، بل إلى أنظمة ذكية تنفّذ اختبارات، وتُحسّن الأداء، وتُصلح الأعطال، بل وتكتب شيفرات بجودة تتفوق على تلك التي ينجزها أفضل المهندسين في الفريق.
بعين المراقب، يمكننا
ملاحظة أن هذه ليست المرة الأولى التي يعبّر فيها زوكربيرج عن هذا التوجّه. إلا أن
الجديد في الأمر هو تحفّظه الزمني: قبل خمسة أشهر، كان أكثر تفاؤلاً، يتحدث عن استبدال
المبرمج المتوسط خلال 2025. اليوم، يبدو أكثر واقعية، ويتوقع أن تبلغ تلك الأدوات هذا
المستوى في منتصف 2026 على أقرب تقدير.
إن هذا التعديل في
نبرة التوقعات لا يخلو من دلالة. فهو يعكس على الأرجح وعياً متزايداً بحجم الهوة بين
الدعاية التقنية والواقع العملي. إذ بات واضحاً أن كثيراً من الوعود التي تطلقها كبرى
شركات الذكاء الاصطناعي ما تزال تراهن على المستقبل أكثر مما تُقدمه للحاضر. فما يزال
الطريق طويلاً أمام الذكاء الاصطناعي كي يصل إلى أداء موثوق ومستقر في البيئات الإنتاجية
الكبرى، رغم ما أحرزه من تقدم.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار
أن الرياح تهب بقوة في هذا الاتجاه. "ميتا" ليست وحدها في سباقها نحو الأتمتة
البرمجية. ففي أكتوبر الماضي، صرح ساندار بيتشاي، المدير التنفيذي لـ"جوجل"،
أن أكثر من ربع الأكواد الجديدة يتم توليدها بواسطة أدوات ذكاء اصطناعي. أما في
"مايكروسوفت"، فقد أكد ساتيا ناديلا أن هذه النسبة ارتفعت إلى 30%.
إن هذا الزخم لا يتوقف
عند الشركات العملاقة فحسب. فحتى المنصات الصاعدة مثل "Shopify" و"Duolingo" تتبنّى
منهجاً مشابهاً. توبي لوتكه، المدير التنفيذي للأولى، وضع شرطاً صارماً أمام أي طلب
للتوظيف: يجب أولاً إثبات أن المهمة لا يمكن تنفيذها بواسطة الذكاء الاصطناعي. أما
في
"Duolingo"،
فقد أُعلن عن خطط تدريجية للتقليص من الاعتماد على المساعدين البشريين لصالح أدوات
تعتمد على الخوارزميات.
بل إن الأمر بلغ أن
شركة
أوبن آي – والتي
تقف خلف أقوى نماذج الذكاء الاصطناعي اللغوي اليوم – تتفاوض حالياً للاستحواذ على شركة
ناشئة تدعى Windsurf، طوّرت أداة برمجية مبتكرة تعتمد تقنية تُعرف
بـ
"vibe coding"،
تتيح إنشاء تطبيقات من خلال أوامر نصية بسيطة. وهي نقلة لا تُبشّر فقط بتغيير في طريقة
البرمجة، بل بتغيير في من يمكنه أن يصبح مبرمجاً.
في هذا السياق، تبدو
البرمجة الكلاسيكية كما عرفناها طيلة عقود في مواجهة إعادة تعريف جذرية. فبينما نشأ
جيلي في زمن كانت فيه كتابة الكود مهارة حصرية، وحرفة تستلزم سنوات من التدريب والمران،
يبدو أن الأجيال المقبلة قد تنظر إلى الأمر كمن ينظر إلى تعلم الكتابة على الآلة الكاتبة
في عصر الشاشات اللمسية.
لكنّ هذا التحول لا
ينبغي أن يُقرأ بسطحية أو فزع. إذ أن الدور البشري – كما علّمنا التاريخ – لا يُلغى
بقدر ما يُعاد تشكيله. ما يحدث اليوم ليس القضاء على المبرمج، بل على المبرمج الذي
لا يتطور. وكما أصبحت لغة التجميع شيئاً من الماضي أمام لغات المستوى الأعلى، فإن أدوات
الذكاء الاصطناعي ليست سوى حلقة أخرى في سلسلة تطور الأدوات، لا نهاية القصة.
التحدي الحقيقي لن
يكون في الذكاء الاصطناعي ذاته، بل في استجابتنا له: هل سنرى فيه خصماً يحلّ مكاننا،
أم أداة تضاعف من قدراتنا؟ هل نتعلم كيف نوجه هذه الأنظمة، نفهم خوارزمياتها، نستخدمها
لإعادة التفكير في بنية البرمجيات، أم نُصر على البقاء في النمط القديم حتى ينتهي بنا
المطاف على الهامش؟
في النهاية، ما أشار
إليه زوكربيرج هو أكثر من مجرّد نبوءة تقنية؛ هو ناقوس يدق في أروقة كل قسم برمجة وكل
كلية علوم حاسوب. ومن أراد أن يبقى في المعادلة، عليه أن يعيد تعريف نفسه، لا ككاتب
شيفرة، بل كمهندس أفكار، قادر على التفكير بلغة الإنسان... ولغة الآلة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق