كنت أظن، ككثير من زملائي الصحافيين، أن الصحافة الطويلة لفظت أنفاسها الأخيرة مع تصاعد زحف "الخبر العاجل"، وتطبيقات الفيديو القصير، وتناقص زمن الانتباه لدى القارئ الرقمي. ولكن شيئاً فشيئاً، وبتأمل في ظاهرة البودكاست التي اجتاحت فضاءنا السمعي، بدأت أرى ملامح عودة مهيبة لذلك النوع من الكتابة العميقة والتحقيقات السردية التي تتطلب وقتاً، صبراً، وتفكيراً نقدياً.
في المغرب، كما في بقية العالم، غدت البودكاستات أشبه بـ"خانات المقاومة" التي تمنح الكلمة مساحتها، والحكاية وقتها، والصوت حقه في التمهل. فبينما تعج مواقع الأخبار بمنشورات مختزلة تسابق الزمن، تأتي البودكاستات مثل واحات للتمعّن، تعيد لنا سلطة الحكي كما في أيام الإذاعة الذهبية، ولكن بمضمون رقمي، شخصي، وأحياناً نقدي إلى حد الجرأة.
لقد أصبحت هذه المساحات
الصوتية ملاذاً للصحافة الطويلة بشكل غير مباشر، ليس عبر المقال المكتوب بالضرورة،
بل من خلال ما يمكن أن نسميه "التحقيق السمعي"، الذي يعود إلى تقاليد صحافية
أصيلة من قبيل العمق، البحث، وتعدد المصادر. خذ على سبيل المثال تجربة «Serial» الأميركية، التي أعادت فتح ملفات قضائية قديمة
وأثارت جدلاً وطنياً حول العدالة والإعلام. أو «The Daily» الذي تقدمه "نيويورك تايمز"، ويعتمد
على تنسيق يشبه تحقيقات الصفحات الطويلة، لكن بصوت بشري يمزج بين التقرير والتأمل والسرد.
في السياق المغربي،
بدأت بعض المحاولات الجادة تظهر، ولو بخطى مترددة. بودكاستات مثل "«Moroccan
Times»" أو مبادرات
شبابية مستقلة تعمد إلى استضافة صحافيين، مؤرخين، وناشطين، وتتطرق إلى قضايا اجتماعية
وتاريخية خارج دائرة الاستهلاك السريع. ورغم أنها لا تزال بعيدة عن الاحتراف الذي بلغته
نظيراتها في الغرب، فإنها تشي برغبة في استعادة المعنى وسط ضجيج المنصات.
ما يثير الانتباه في
هذه الظاهرة ليس فقط عودة العمق، بل الشكل الذي تتم به. فالصوت، على عكس النص، يتيح
هامشاً من القرب الإنساني: النَفَس، التردد، الانفعال، كلها عناصر تضفي على الحكي بُعداً
حسياً يجعل المتلقي يعيش القصة لا يقرأها فقط. وكما يشير الباحث «جون دورهام بيترز»
في كتابه «Speaking into the Air»، فإن الاتصال الصوتي يستبطن شحنة وجدانية
تتجاوز الكلمات، وهو ما يجعل البودكاستات وسيلة مثالية لإعادة بناء الثقة بين الإعلام
والجمهور.
إن الصحافة الطويلة
كانت دائماً تتغذى من التوثيق، من الانتباه للتفاصيل، من رفض التسطيح. وهذه بالضبط
هي القيم التي تعود اليوم عبر البودكاست، ليس فقط في محتوى التحقيقات، بل حتى في تلك
السرديات التي توثق لذاكرة المدن، حكايات المهمشين، أو شهادات الضحايا. فكأن البودكاست
لا يكتفي بأن يكون إعلاماً، بل يغدو وسيلة أرشفة إنسانية، شفاهية، حية. إنه، بطريقة
ما، يعيد إلينا الوظيفة القديمة للصحفي كراوٍ وناقل خبرة.
ما يعزز هذا التوجه
هو تغير نمط الاستهلاك الثقافي. لم يعد القارئ/المستمع يبحث عن "الخبر"،
بل عن الفهم، عن الإطار، عن القصة خلف الأرقام. والجيل الجديد، رغم ما يُقال عنه من
نفور من القراءة، لا يخلو من شغف بالمعنى، شريطة أن يُقدَّم له بصيغ تواكب إيقاعه.
وهنا تلعب البودكاستات دور الوسيط الحضاري، إذ تمنح المعنى إهاباً عصرياً، قابلًا للحمل،
للاستماع أثناء التنقل، للانخراط بدون شاشة.
أكاد أجزم أن البودكاستات،
كما نعيشها اليوم، ليست فقط شكلاً جديداً من أشكال التعبير، بل هي تجلٍّ لإعادة التفاوض
بين الإعلام والجمهور، بين العمق والسرعة، بين الحكاية والحدث. وهي تطرح علينا، كصحافيين
مغاربة، تحدياً جاداً: كيف نعيد صياغة أدواتنا؟ كيف نستثمر هذا الوسيط الجديد دون أن
نفرّط في أخلاقيات المهنة؟ وكيف نفتح المجال لتجارب محلية تحاكي واقعنا وتكسر احتكار
المعلومة المسطحة؟
ربما حان الوقت، في
المغرب، لإطلاق مشاريع بودكاست صحافية مستقلة، تحاكي النموذج الاستقصائي، وتنفتح على
الجهات المهمّشة، والمواضيع المسكوت عنها. فالرهان اليوم ليس فقط على التكنولوجيا،
بل على ما يمكن أن نفعله بها. وكما يقول «مارشال ماكلوهان»: "الوسيط هو الرسالة"،
لكن الرسالة الحقيقية لا تزال مسؤوليتنا.
0 التعليقات:
إرسال تعليق