بصفتي كاتبًا مغربيًا يتابع عن كثب تطورات قضية الصحراء المغربية، شعرت بالحاجة الملحة للتعبير عن رؤيتي بخصوص المؤتمر السياسي الثاني للتحالف من أجل الحكم الذاتي في الصحراء، الذي نُظم بمدينة الداخلة يومي 29 و30 أبريل 2025. لم يكن هذا اللقاء مجرد محطة تنظيمية أو بيان سياسي عابر، بل جسّد لحظة استراتيجية تجمعت فيها إرادات من مشارب فكرية وسياسية متعددة، هدفها المشترك ترسيخ خيار الحكم الذاتي كحل واقعي وناجع لهذا النزاع الذي طال أمده.
التحالف من أجل الحكم الذاتي ليس مجرد إطار تنظيمي، بل هو فضاء جماعي تتلاقى
فيه أصوات ناضجة تنتمي إلى عوالم السياسة والدبلوماسية والقانون والإعلام والمجتمع
المدني، من مختلف قارات العالم. إن هذا التحالف يُرافع بجرأة عن مقترح الحكم الذاتي
باعتباره السبيل الوحيد لتجاوز الجمود الذي يعرفه الملف، ومفتاحًا نحو استقرار دائم
في منطقة استراتيجية تعاني من تجاذبات إقليمية معقدة.
حسب عدة تقارير صحفية وتحت شعار يعكس وعيًا بالتحولات الدولية المتسارعة، انطلقت
أشغال المؤتمر، حيث دعا المشاركون إلى ضرورة تجديد المقاربة الأممية حيال هذا النزاع،
مؤكدين على أهمية قراءة المعطيات الجديدة التي فرضها الواقع، سواء على مستوى الميدان
أو داخل أروقة القرار الدولي. فخيار الحكم الذاتي لم يعد مجرد تصور مغربي، بل أضحى
أطروحة مدعومة من جهات عديدة تعتبره حلاً يتسم بالجدية والمصداقية، ويقدم إطارًا عقلانيًا
لتسوية النزاع ضمن السيادة المغربية.
الطرح المغربي للحكم الذاتي، الذي تم تقديمه منذ العام 2007، لم ينبثق من فراغ،
بل جاء كإجابة سياسية عقلانية تستوعب تعقيدات القضية، وتوفر للساكنة الصحراوية إمكانيات
حقيقية لتدبير شؤونها المحلية في إطار سيادة وطنية لا مساومة عليها. إن هذه المبادرة
تتناغم مع مقتضيات القانون الدولي وروح القرارات الأممية، وتفتح الباب أمام حل سياسي
متفاوض بشأنه يحترم الخصوصية الثقافية والجغرافية للمنطقة.
المؤتمر شكل أيضًا لحظة استعراض للزخم الدولي الذي يعرفه الملف، حيث أضحى الحضور
القنصلي المكثف في مدينتي العيون والداخلة، والمتجسد في افتتاح العشرات من القنصليات
من مختلف القارات، بمثابة إقرار عملي بالسيادة المغربية. هذا الحضور ليس رمزيًا فحسب،
بل هو مؤشر دبلوماسي صريح على انتقال الملف إلى مرحلة جديدة، تُرجّح كفة الحل الواقعي
وتُضعف الطروحات الانفصالية.
من جهة أخرى، حظيت المشاريع التنموية التي تشهدها الأقاليم الجنوبية باهتمام
خاص خلال المؤتمر، لاسيما في ظل تنفيذ النموذج التنموي الجديد الذي يراهن على جعل الصحراء
المغربية منصة اقتصادية وتجارية تربط المغرب بعمقه الإفريقي. مشروع ميناء الداخلة الأطلسي،
على سبيل المثال، ليس مجرد بنية تحتية عملاقة، بل هو تعبير عن رؤية استراتيجية تنموية
تعزز الاندماج الاقتصادي وتفتح آفاقًا واعدة للشباب في الجهة.
إن هذا الربط بين الدبلوماسية الفاعلة والتنمية الملموسة يضع المقاربة المغربية
في موقع متقدم، ويمنحها تفوقًا أخلاقيًا وسياسيًا في معركة كسب العقول والقلوب، ليس
فقط على الصعيد الدولي، بل أيضًا لدى الرأي العام المحلي في الأقاليم الجنوبية، الذي
بات يرى في المشروع المغربي بوابة نحو الاستقرار والكرامة والمشاركة الفعلية في تدبير
المصير.
ومن خلال هذه الدينامية المتعددة الأبعاد، يتأكد بأن مقترح الحكم الذاتي لم
يعد ورقة تفاوضية فحسب، بل أصبح مشروعًا للحياة، متكاملًا، يجمع بين الأمن السياسي
والانفتاح الديمقراطي والتنمية الاقتصادية، ويعكس نضجًا مغربيًا في التعامل مع أحد
أعقد ملفات ما بعد الاستعمار في إفريقيا.
كمواطن مغربي، أعتقد أن اللحظة الراهنة تفرض على المنتظم الدولي أن يعيد النظر
في آلياته وتصوراته القديمة، وأن يتحرر من منطق "إدارة النزاع" لصالح منطق
"تسويته"، عبر اعتماد مقاربة براغماتية تتماشى مع التحولات الميدانية والدبلوماسية.
الوقت ليس في صالح الجمود، والرهان على أطروحات لا تجد صدى إلا في الماضي أو في خيال
من يتاجرون بمآسي الشعوب، هو رهان خاسر.
إن دعوة التحالف إلى تجديد المقاربة الأممية ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة واقعية.
فالعالم تغيّر، والمعادلات الإقليمية انقلبت، والمغرب لم يعد ذاك البلد المنتظر للإنصاف،
بل أصبح فاعلًا مؤثرًا، يُبادر ويُقترح ويُنفذ. من هنا، فإن المسؤولية الأخلاقية والسياسية
تقع اليوم على عاتق الهيئات الدولية، كي تواكب هذا التحول وتعترف بأن الحل بات واضحًا،
ومعالمه مرسومة، وطريقه مفتوح على قاعدة الحكم الذاتي في ظل السيادة الوطنية المغربية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق