الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، مايو 01، 2025

عيد الشغل بين مطرقة البطالة وسندان الأتمتة : عبده حقي


حين يحلّ فاتح ماي، اليوم العالمي للشغل، لا أراه مجرد تاريخ تتزاحم فيه الشعارات على اللافتات أو تصدح فيه الحناجر في الساحات. إنه مرآة عامّةٌ لما نكابده من متاعب، وهو لحظة وعي جماعي نتأمل فيها وضعنا المهني والاقتصادي بعيون يملؤها الأمل، وإن لم تخفِ الألم.

ومثل الكثير من المغاربة ، أحمل على ظهري تعب الحياة، وأحمل في قلبي أسئلة بلا أجوبة. فكيف نحتفل بعيد الشغل في بلدٍ تتجاوز فيه نسبة البطالة بين الشباب عتبة مزعجة. كيف نرفع القبعات للعمال والعاملات، ونحن نعلم أن كثيرًا منهم يقضون سنوات بلا عقود عمل ولا تغطية صحية ولا أفق لترسيم؟ بل كيف نطمئن لمستقبل نراه يتبدّل بسرعة، حيث تهددنا الآلات الذكية أكثر من تهديدنا من البطالة التقليدية؟

لقد بات الذكاء الاصطناعي ضيفًا دائمًا على موائد النقاشات الكبرى، لكنه بالنسبة لنا، في الجنوب العالمي، ليس ترفًا معرفيًا بل كابوسًا حقيقيًا. ليس لأننا نرفض التكنولوجيا أو نخشاها، بل لأننا نراها تُسرّع من وتيرة الإقصاء، وتهدد ما تبقى من وظائف هشّة في الأسواق. فحين تُبرمج الخوارزميات لتحلّ محل المحاسبين، والمترجمين، والصحفيين، وحتى بعض المهندسين، نسأل أنفسنا بمرارة: أين سيكون موضع أقدامنا في هذا العالم الجديد؟

وما يزيد الطين بلة هو هجرة الأدمغة. كم من صديقٍ ومهندسٍ وطبيبٍ شدّ الرحال إلى كندا، أو ألمانيا، أو الخليج، باحثًا عن قيمة لمؤهلاته، بعدما اصطدم في بلاده بجدار الزبونية، و"الكونكور" الوهمي، والفرص الشحيحة. الهجرة، في وجهها هذا، ليست حلمًا، بل هروبًا. والذين بقوا، إما اختاروا البقاء بدافع الأمل، أو لأن الهجرة لم تُفتح لهم أبوابها. أما الوطن، فينزف من حيث لا يشعر.

تقول بعض التقارير الدولية إن المغرب يحرز تقدمًا في جلب الاستثمارات وتحسين مناخ الأعمال، لكن أي أثر حقيقي لهذا على الطبقات العاملة؟ لا أحد ينكر أن هناك جهودًا رسمية، وأن مشاريع كبرى ترى النور من طنجة إلى الداخلة، لكن الأثر الاجتماعي لهذه المشاريع ما زال هشًّا. هناك انفصال واضح بين نمو الاقتصاد ونمو فرص الشغل. وكأن عجلة التنمية تدور، لكنها لا تلتقط كل من هم على الطريق.

وأنا أتأمل كل هذا، أعود بذاكرتي إلى سنوات الجامعة، حين كنا نحلم بشهادة نُغيّر بها مصائرنا. اليوم، كم من حامل لشهادة ماستر أو دكتوراه يبحث عن وظيفة مؤقتة أو يعمل في مهن لا علاقة لها بتخصصه؟ هذه ليست فقط أزمة فردية، بل هي علامة على خلل في السياسة التعليمية والتخطيط الاقتصادي. فكيف نعِد شبابنا بمستقبل واعد، ثم نخذلهم عند أول محطة عمل؟

وفي المقابل، هناك جيل جديد من المغاربة يغامر بمشاريع ريادة أعمال، يبرمج، يصمّم، يسوّق رقميًا، بل ويصدر خدماته من داخل مقاهٍ صغيرة بالرباط أو الدار البيضاء إلى عوالم وادي السيليكون. هذا الجيل يحتاج إلى دعم حقيقي، لا شعارات، يحتاج إلى بنية قانونية، وتشجيعات مالية، وأهم من ذلك: الثقة. فكم من فكرة قتلتها البيروقراطية، وكم من مبادرة دفنها الروتين.

وفي هذا المشهد المتشابك، تبقى النقابات، رغم ضعفها، صوتًا ضروريًا. إننا بحاجة إلى نقابات حداثية، تفهم تحولات الاقتصاد الرقمي، وتدافع عن حقوق العاملين في منصات "أوبر" و"فريلانس"، لا فقط أولئك المرتبطين بعقود كلاسيكية. فالعالم تغيّر، ويجب أن تتغيّر معه أدوات النضال.

فاتح ماي، إذًا، ليس ذكرى عابرة. إنه جرس إنذار، بل هو لحظة يجب أن نعيد فيها طرح الأسئلة الكبرى: ما معنى العمل في زمن الأتمتة؟ كيف نضمن عدالة اجتماعية في عالم يمجّد الكفاءة الرقمية وينسى الإنسان؟ وهل يمكن للمغرب أن يصوغ نموذجًا تنمويًا يدمج الجميع، لا فقط النخبة؟

أعرف أن لا أجوبة جاهزة لهذه الأسئلة، لكنني أؤمن أن الاعتراف بالمشكلة هو أول الطريق نحو الحل. يجب أن نبدأ من المدرسة، من مناهج تزرع مهارات المستقبل، لا فقط معارف الماضي. ويجب أن نُعيد الاعتبار للتكوين المهني، لا كمأوى لليائسين، بل كخيار نخبوي يضمن الاستقلالية. كما علينا أن نواجه اقتصاد الريع، بكل شجاعة، ونفتح أبواب الفرص أمام الكفاءات، لا الولاءات.

أما الهجرة، فليست كارثة في ذاتها، لكنها تصبح كذلك حين تتحول إلى نزيف مستمر. لماذا لا نستثمر في ربط جسور مع كفاءاتنا بالخارج؟ لماذا لا نحفّزهم على العودة؟ لا بالخطابات، بل بالمشاريع، وبإصلاحات حقيقية تزيل عن الإدارة طابعها العقيم، وتردّ الاعتبار لقيمة الكفاءة.

أكتب هذه الكلمات وقد امتلأ رأسي بأسئلة، وقلبي بتوجّس جاثم، لكنني لا أملك سوى هذا القلم أواجه به تعقيدات الواقع. لست عدميًا، ما زلت أؤمن بإمكان التغيير، لكني أصرّ على أن نكون واقعيين: فاتح ماي ليس فقط للاحتفال، بل للمساءلة، للوقوف عند الخيبات، دون أن ننسى الإشراقات.

ربما لا يأتي الجواب غدًا، لكن إن أحسنّا طرح الأسئلة، فإننا على الأقل نمنح الجيل القادم بوصلة أفضل.

0 التعليقات: