حين أنظر من نافذتي الصغيرة إلى العالم، لا أراه كما كنت أراه في زمن ما قبل الشاشات. فقد تغيرت الأزمنة، وتبدلت العلاقات، وأصبحنا نحمل العالم في جيبنا، لكنه عالمٌ يُشبه السراب؛ يلمع من بعيد، لكنه يخفي وراءه جفافًا عاطفيًا وصحراء نفسية مترامية الأطراف. بصفتي كاتبًا مغربيًا نشأ على دفء الحوارات المباشرة، وعلى صدق النظرات التي لا تحتاج لفلتر، أجد نفسي اليوم محاصرًا بأسئلة جديدة: ما الذي فعلته بنا شبكات التواصل الاجتماعي؟ هل جعلتنا أقرب لبعضنا كما تدّعي؟ أم أنها، في حقيقة الأمر، هندست عزلتنا وأعادت تشكيل صحتنا النفسية وفق خوارزميات لا قلب لها؟
في السنوات الأخيرة،
ازداد الحديث عن الآثار النفسية لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، ليس فقط بين الناس
العاديين، بل في الأوساط الأكاديمية والطبية كذلك. تقرير صادر عن «الجمعية الأمريكية
لعلم النفس
(APA)» سنة
2023، بيّن أن الاستخدام المفرط لتطبيقات مثل "إنستغرام" و"تيك توك"
ارتبط بارتفاع معدلات القلق، الاكتئاب، واضطرابات النوم، خصوصًا في أوساط الشباب والمراهقين.
وفي المغرب، بدأ هذا الصدى يُلمَس حتى في أحاديث المقاهي، في انكسارات الصمت بين أصدقاء
يجلسون في المكان ذاته، وكلٌّ في جزيرته الرقمية المعزولة.
المفارقة العجيبة،
أن هذه المنصات وُلدت في البدء كوسيلة تواصل، لكنها سرعان ما تحولت إلى واجهات عرض،
أو ما يُشبه "بازارًا نرجسيًا" يتبارى فيه الناس على تقديم نسخ مثالية من
ذواتهم. وكما كتب الباحث الأمريكي «شوشانا زوبوف» في كتابها الشهير «"عصر رأسمالية
المراقبة "
(The Age of Surveillance Capitalism)»، فإن هذه المنصات لا تقدم محتوى مجانيًا من باب السخاء، بل تحوّل كل
لحظة، كل إعجاب، كل صورة، إلى بيانات تُباع وتُشترى، بينما المستهلك الأساسي هو عقلنا
نفسه، بل صحّتنا النفسية ذاتها.
أنا شخصيًا بدأت ألاحظ
كيف تُغيّر هذه المنصات من إيقاع المزاج الشخصي، كيف يمكن لتعليق سلبي، أو تجاهل صورة
نشرتها، أن يؤثر على يومي كما كان يؤثر رفض اجتماعي في طفولتي. هذه المنصات أعادت برمجة
مفهوم القبول والرفض لدينا. لم نعد ننتظر تقييمًا من محيطنا المباشر، بل صرنا نركض
وراء إعجابات رقمية، تُمطر علينا أو تُحجب عنا، في لعبة لا تنتهي.
والأخطر أن المنصات
لا تكتفي بجذب الانتباه، بل تتعمد خلق الاعتياد، أو الإدمان السلوكي. تشير دراسة لجامعة
ستانفورد إلى أن الإشعارات والتنبيهات تُفعّل في الدماغ نفس المسارات العصبية التي
تُفعّلها المواد المُخدِّرة. وكأن هواتفنا الذكية لم تعد أدوات، بل صارت كائنات حية
تُحدّثنا وتُكافئنا وتُعاقبنا… صارت مرآة لأعماقنا المربكة.
في المغرب، حيث يتقاطع
التراث الشفهي مع الاندماج المتسارع في الثقافة الرقمية، لم نستوعب بعد تمامًا هذه
التحولات. فالكثير من الشباب، لا سيما في المدن الكبرى مثل الدار البيضاء ومراكش، يعيشون
ما يُشبه "الانفصام الرقمي"؛ يبتسمون في صورهم، بينما يئنّون داخليًا من
الوحدة، المقارنة المستمرة، والخوف من عدم الوصول. إنها أزمة نفسية صامتة، لكنها آخذة
في الانتشار، كمرض تحت جلدة الزمن.
وقد بدأت بعض المبادرات
في المغرب تحاول دق ناقوس الخطر. ففي ندوة نظمتها جامعة محمد الخامس بالرباط سنة
2024، نوقشت العلاقة بين "الوجود الرقمي" و"الرفاه النفسي"، حيث
طرح بعض الباحثين ضرورة إدماج التربية الرقمية في المناهج التعليمية، لا فقط لتعليم
المهارات التقنية، بل لفهم المخاطر النفسية الكامنة وراء الاستخدام غير الواعي لهذه
الأدوات.
لا يعني هذا أنني أدعو
لهجر هذه المنصات كليًا، فالعالم الرقمي بات جزءًا من نسيجنا المعرفي والاجتماعي، لكنه
نداء لإعادة التوازن. أن نستعيد حقنا في الصمت، في التأمل، في اللقاء الحقيقي، وفي
الحزن غير المؤرشف. لعلنا نحتاج، كما اقترح عالم الاجتماع الفرنسي «بيار بورديو»، إلى
فهم بنية الحقول التي نتحرك فيها، وأن نُفكّك الرموز قبل أن تُفكّكنا.
أكتب هذا النص وأنا
أراقب شاشة هاتفي تتوهج إلى جانبي. إشعارات جديدة تنتظر، ربما إعجاب، ربما رسالة. لكنني
سأدعها تنتظر. في هذا الزمن المُثقل بالتنبيهات، لعلّ الصمت هو الفعل الثوري الأخير.
0 التعليقات:
إرسال تعليق