الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، أبريل 30، 2025

عدد جديد من مجلة "شرمولا" يرسم ملامح سوريا الثقافية الجديدة"


في لحظة مفصلية من تاريخ سوريا، لحظة تتأرجح فيها البلاد بين ذاكرة الجراح وتطلعات المستقبل، جاء العدد الخامس والعشرون من مجلة «شرمولا» ليعلن، بحبر الأدب وريشة الفن، عن ملامح جديدة لسوريا ما بعد البعث. إنها ليست سوريا الخرائط، ولا تلك التي اجتهد الإعلام في رسم حدودها الأيديولوجية، بل سوريا المتعددة، المتداخلة، المشتهاة التي يسكنها الأمل وتتنفس بالثقافة.

المجلة، التي تصدر بانتظام فصلي من مناطق شمال وشرق سوريا، وتخاطب قراءها بالعربية والكردية، لم تكن هذه المرة مجرد منصة لنشر الإبداع، بل تحوّلت إلى ورشة فكرية لتأمل "سوريا الجديدة" من زاوية الثقافة والأدب، وقد جعلت من هذا الموضوع ملفاً رئيسياً لعددها الجديد، واضعة بذلك إصبعها على الجرح، لا لتؤلمه، بل لتشير إلى موضع الشفاء الممكن.

افتتاحية العدد لم تكتف بوصف الواقع، بل مضت إلى طرح ما يمكن تسميته بخارطة طريق أدبية لسوريا متعددة، تتأسس على الاعتراف الدستوري بحرية التعبير الثقافي واللغوي لكل الأعراق والمجتمعات المحلية. إنه إعلان واضح عن الحاجة لعدالة لغوية تؤمن بأن لكل مكون سوري الحق في تعلم لغته، والاحتفاء بأعياده، والاعتزاز بتراثه، من نوروز الكردي إلى آكيتو الآشوري إلى المناسبات المسيحية والأيزيدية. وحدها المجتمعات التي تتبادل أفراحها وأتراحها وتقرأ أدب بعضها البعض قادرة على إعادة بناء وطنها من الداخل.

ولم تكتف المجلة بمناشدة الشعارات، بل طالبت بإعادة هيكلة المؤسسات الثقافية نفسها: من اتحادات الكتاب إلى نقابات الفنانين إلى دور النشر، داعية إلى أن تكون كيانات وطنية جامعة لا تقصي أحداً ولا تشتغل وفق محاصصات سياسية أو طائفية. وهنا تظهر المجلة كأنها تطرح مشروع "دستور ثقافي" غير مكتوب، يقترح المأسسة بدل الفوضى، والتعدد بدل الإقصاء، والمشاركة بدل الوصاية.

الملف الرئيس للعدد حمل آراء نخبة من الكتاب السوريين، من أمثال عبدالوهاب پيراني وبيمان بيري ورفيق إبراهيم، حيث تنوعت القراءات بين نقد خطاب الكراهية، والمرافعة عن الحق في التعلم باللغة الأم، ومحاولات إعادة تعريف الهوية الثقافية السورية بعد أن ظلت مختطفة لعقود طويلة. ويبرز هنا أن ما يجمع هذه المساهمات ليس فقط الاشتراك في الهم السوري، بل التأسيس لوعي أدبي جديد، وعي يعيد للفن والثقافة أدوارهما في بناء المعنى، لا فقط في تزيين الندب.

وتميّز العدد أيضًا بحوار مع الكاتب الكردي السوري فارس عثمان، حيث بدا الحوار كمساحة تأمل لا في الواقع الثقافي فقط، بل في سيرورة التحول الفكري في مناطق الشمال السوري، وفي كيفية تجاوز الثنائية الكلاسيكية بين السياسة والأدب نحو كتابة تحمل في ذاتها فعل المقاومة.

أما القسم العربي من المجلة، فقد توزّع بين دراسات أدبية عميقة مثل خطاب وحدة الوجود عند أحمد حمدينو، وجدليات الواقعي والميتافيزيقي عند محمد عبدالله الخولي، وصولاً إلى مساءلات للتراث السردي في نصوص تحمل همّا اجتماعيا وهوياتيا. في حين جاءت القصص والقصائد لتضفي على العدد مسحة إنسانية شفافة: من "امرأة لا تجيد الرقص" إلى "على قيد التضحية"، ومن "انبعاث" إلى "مجدداً"، يتنقل القارئ بين نصوص تعكس حالات التمزق والنهضة، الانكسار والنهوض، وكأنها صورة مصغرة لسوريا ذاتها.

كما لم تغفل المجلة الإشارة إلى جماليات التشكيل، حيث أرفقت العدد بأعمال فنية لكل من نايا إبراهيم، أحلام خالد، ونرجس إسماعيل. وهي لوحات لا تُفهم كمجرد زينة بصرية، بل كجزء من خطاب المجلة الشامل الذي يجعل من الفنّ واللغة حلفاء في المعركة من أجل وطن تعددي.

في النهاية، ما تقترحه «شرمولا» ليس مجرد قراءة ظرفية للواقع السوري، بل مشروع ثقافي طويل النفس. مشروع يرى أن خلاص سوريا لن يأتي من مائدة سياسية أو اتفاق مرحلي، بل من أعماق الكتب والقصائد واللغات التي طالها النفي والنسيان. سوريا التي تكتب نفسها من جديد، جملة جملة، ووجهاً بوجه.


0 التعليقات: