الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، يونيو 23، 2025

قراءة في خلفيات استقالة رئيس المحكمة الدستورية الجزائرية: ترجمة عبده حقي


في لحظة بدت عابرة في المشهد السياسي الجزائري، أعلن عن استقالة القاضي «عمر بالحاج» من رئاسة المحكمة الدستورية، أحد أبرز المناصب السيادية في الدولة. ورغم أن الخبر مرّ في وسائل الإعلام المحلية دون كبير اهتمام، فإن خلفيات هذه الاستقالة ـ أو "الإقالة المقنعة" كما يراها البعض ـ تكشف عن خبايا عميقة ترتبط ببنية النظام السياسي الجزائري، وطبيعة الحكم، وأحلام السلطة والهروب منها حين تدق ساعة الحساب.

إن مغادرة شخصية قضائية بمثل هذا الثقل لمنصبه، دون مرض أو حادث جلل، تُعد نادرة في تقاليد الدولة الجزائرية، التي غالباً ما يتشبث فيها المسؤولون بكراسيهم حتى الرمق الأخير. فالمغادرة الطوعية، في عرف الحكم الجزائري، تُعد استثناء شاذاً عن قاعدة راسخة: البقاء في المنصب حتى الموت، أو السقوط بالإقالة أو السجن.

فلماذا قرر عمر بالحاج أن يغادر بهذه "السلاسة"؟ ولماذا قَبِل الرئيس عبد المجيد تبون استقالته بهذه السرعة، خلافاً لما هو معهود منه تجاه معاونيه المقربين؟

الوقائع تشير إلى أن القاضي المستقيل لعب دوراً محورياً في "تزييف الشرعية" خلال الانتخابات الرئاسية المبكرة في سبتمبر 2024. فقد كان رئيس المحكمة الدستورية هو الحلقة الأخيرة في سلسلة التزوير، إذ وافق، بل أشرف، على تضخيم أرقام المشاركة ونتائج التصويت، ليمنح تبون فوزاً لا تعكسه صناديق الاقتراع، بل إرادة المؤسسة الحاكمة وحدها. فبينما أعلنت الهيئة الوطنية المستقلة للانتخابات عن مشاركة تقارب 5 ملايين ناخب، خرجت المحكمة بأرقام تفوق 11 مليوناً، في مشهد أثار سخرية المراقبين وذهول المتابعين.

المقابل؟ وعد بمنصب دبلوماسي آمن في الخارج، يرجّح أن يكون في دولة خليجية، يمنحه تقاعداً مريحاً وبُعداً عن الأضواء. إذ يدرك بالحاج أن بقائه في الجزائر خلال السنوات المقبلة، وفي منصب على تماس مباشر مع مستقبل السلطة، سيجعله عرضة للاستهداف، خاصة إذا دخلت البلاد في أزمة خلافة رئاسية أو صراع على تجديد العهدة.

إن الرجل، الذي بلغ السادسة والسبعين من عمره، لم يعد قادراً على تحمل تبعات أخطاء النظام الذي خدمه، ولا يرغب في أن يكون شاهداً أو مشاركاً في مرحلة قد تكون أكثر اضطراباً من سابقاتها. فهو يخشى من سيناريو بات معروفاً في السياسة الجزائرية: كل من يساهم في تثبيت سلطة، يصبح لاحقاً أحد ضحاياها.

وهنا نستحضر دروس التاريخ القريب: رؤساء وزراء سابقون، وزراء، قادة أجهزة، وحتى جنرالات نافذون، انتهى بهم المطاف إلى الزنازين بمجرد تغير موازين القوى. فعندما تحلّ لحظة تصفية الحسابات في الجزائر، لا تُستثنى الوجوه، ولا تُحترم التواريخ، ولا يُعترف بالخدمات الماضية.

استقالة بالحاج، في هذا السياق، ليست فعلاً إدارياً بحتاً، بل هي فعل سياسي استباقي، يستهدف الإفلات من آلة العقاب التي بدأت تتشكل في أفق ما بعد تبون. فالرجل يدرك أن النظام دخل طور "تفكيك التوافقات" الذي يسبق عادة انهيار منظومات الحكم المغلقة. كما يدرك أن الطموح المحتمل لدى الرئيس لولاية ثالثة ـ رغم مخالفة الدستور ـ سيشعل صراعات داخلية قد تأتي على الأخضر واليابس، بمن فيهم القضاة الذين شرعنوا التزوير.

ليس صدفة أن يتم استبداله بمسؤولة قضائية أخرى، السيدة ليلى أسلاوي، رغم أنها في الثمانين من عمرها. فالخيار يكشف عن ارتباك في دوائر القرار، ورغبة في كسب الوقت، أكثر من كونه انتقالاً محسوباً في التعيينات السيادية.

إن اختيار التوقيت ـ بعد أقل من سنة على الانتخابات المطعون فيها، وقبل أربع سنوات من نهاية العهدة الحالية ـ يعكس إدراكاً دقيقاً من بالحاج أن "الزمن السياسي" في الجزائر لا يُقاس بالتقويم، بل بالتوازنات المتحركة، وأنه من الحكمة مغادرة المسرح قبل أن تنطفئ الأنوار.

فالمشهد الجزائري اليوم لا يطمئن أحداً: أزمات اقتصادية خانقة، شكوك متزايدة حول صحة الرئيس، تصدّع في جهاز الحكم، عودة محتملة للتيارات الإسلامية، توتر في الشارع المكبوت، وبيئة إقليمية غير مستقرة. وفي ظل كل هذه العوامل، تصبح المناورة بالبقاء مغامرة غير مأمونة العواقب، خاصة لمن شارك في تزوير صناديق الاقتراع.

إن القاضي عمر بالحاج، باستقالته هذه، يراهن على النسيان. يريد أن يُمحى من الذاكرة الجمعية، أن يتحوّل إلى رقم في لائحة السفراء المتقاعدين، لا إلى اسم في لائحة المتهمين أمام أي محكمة تاريخية أو شعبية قادمة.

قد يبدو قراره، في الظاهر، استسلاماً أو هروباً. لكنه، في العمق، نوع من الحصافة السياسية التي غابت عن كثيرين ممن انتهوا خلف القضبان. إنه إعلان غير مباشر بأن الجزائر ـ بنظامها الحالي ـ دخلت مرحلة اللايقين، وأن من لا يتقن فن المغادرة سيُجبر على الرحيل بطريقة أكثر إيلاماً.

فهل استقال بالحاج... أم نجا؟

0 التعليقات: