الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، يوليو 03، 2025

كيف تعيد الصحافة الرقمية تشكيل الحملات السياسية؟: عبده حقي


 لم يعد المشهد السياسي، في عصر الصحافة الرقمية، كما كان عليه في ظل الصحافة الورقية أو البث الإذاعي والتلفزيوني التقليدي. لقد دخلت الحملات الانتخابية مرحلة جديدة من التفاعل والتأثير، حيث لم تعد تُقاس فعاليتها بعدد اللافتات أو التغطيات الصحفية المطبوعة، بل بمدى قدرتها على إشعال منصات التواصل وتحقيق "الترند".

في البدء، كانت العلاقة بين الإعلام والسياسة علاقة تأثير متبادل، لكن الإعلام الرقمي، وخاصة الصحافة الرقمية، أعاد توزيع أدوار السلطة. لم تعد الأحزاب وحدها هي من تملك مفاتيح الخطاب السياسي؛ بل باتت الصحف الرقمية، بتقنياتها الحديثة وخوارزمياتها المتقدمة، تمتلك ما يشبه السلطة الرابعة المضاعفة، سلطة تنبض بالسرعة وتخترق الحواجز الجغرافية والزمنية.

التحول الأبرز الذي أفرزته الصحافة الرقمية هو "تخصيص الرسالة السياسية". فلم تعد الحملات السياسية موجهة إلى جماهير واسعة برؤية موحدة، بل أصبحت الرسائل تفصّل وفقًا للبيانات الشخصية للمستخدمين. وبفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات، كما تبيّن في تقرير «The Guardian» عن الحملة الرئاسية الأمريكية سنة 2016، أصبح بالإمكان معرفة توجهات الناخبين ومخاوفهم الدقيقة ثم مخاطبتهم بلغة تحاكي وجدانهم، فتبدو الحملة وكأنها كتبت خصيصًا لهم.

لكن هذا التحول لم يكن بريئًا بالكامل. فكما يتيح التخصيص السياسي دقة في الوصول، فإنه يفتح الباب أيضًا أمام ما يُعرف بـ"فقاعات المعلومات" التي تحبس المستخدمين في دوائر ضيقة من الأخبار والمواقف، ما يؤدي إلى تعزيز الانقسام والاستقطاب. هذا ما ناقشه إيلي بارايزر في كتابه "The Filter Bubble"، مشيرًا إلى أن الخوارزميات قد تصنع واقعًا سياسيًا موازيا لكل فرد، وتخفي عنه الرأي الآخر أو المعلومة المخالفة.

من جهة أخرى، فإن الإيقاع السريع للصحافة الرقمية غيّر مفهوم التفاعل السياسي. لم تعد ردود الفعل تُقاس بالأيام أو حتى بالساعات، بل بالدقائق والثواني. فكل تغريدة خاطئة، أو فيديو مسرّب، يمكن أن يقلب موازين حملة بأكملها. وقد شهدنا كيف أثّرت مقاطع الفيديو القصيرة على «تيك توك» في الانتخابات الرئاسية في فرنسا، حيث استعان المرشحون بمؤثرين رقميين لتلميع صورتهم أمام الشباب.

ولا يمكن تجاهل الدور المحوري الذي تلعبه "الصحافة التفاعلية"، تلك التي لا تكتفي بالنشر، بل تفتح المجال للتعليق والمشاركة والجدال المباشر. وهذا يعيد تشكيل العلاقة بين السياسي والمواطن، من علاقة خطاب أحادي إلى علاقة حوارية، وإن كانت في كثير من الأحيان مشحونة ومتشنجة. إنها علاقة تشبه الرقص على حافة الهاوية، حيث يمكن للحظة غضب افتراضية أن تتحول إلى أزمة سياسية حقيقية.

وبينما تبدو هذه التغيرات مثيرة، فإن الصحافة الرقمية تعاني من هشاشة مهنية. فالبحث عن "الكليك" قد يدفعها نحو الإثارة والتضليل، وهو ما أكده تقرير "Digital News Report 2023" الصادر عن  «Reuters Institute، حيث أشار إلى انخفاض الثقة العامة في الأخبار الرقمية، مقابل ارتفاع الإقبال على الأخبار القصيرة والمبسطة.

ومع ذلك، فإن الصحافة الرقمية، رغم كل ما سبق، تتيح فرصًا ذهبية لتجديد الفعل الديمقراطي. فهي، كما يرى مانويل كاستلز في كتابه "Communication Power"، تتيح للفاعلين الهامشيين أن يصنعوا تأثيرًا كبيرًا. لم تعد الحملات حكرًا على أصحاب المال والنفوذ، بل أصبح من الممكن لناشط صغير أو حركة شبابية أن تكتسح الرأي العام، بمجرد فيديو صادق أو وسم ذكي.

في النهاية، يمكن القول إن الصحافة الرقمية ليست مجرد أداة في يد الحملات السياسية، بل هي جزء من نسيج اللعبة ذاتها. هي المنبر والحَكَم والجمهور في آن. إنها الساحة التي تُخاض فيها المعارك، وتُصاغ فيها الروايات، وتُحسم فيها أحيانًا نتائج الانتخابات.

فمن لم يفهم بعد هذه الديناميكية الجديدة، سيظل يخوض معاركه بسلاح قديم، في ميدان تغيرت تضاريسه جذريًا.

0 التعليقات: