الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، يونيو 13، 2025

كيف تعيد الأجناس الرقمية تشكيل خيالنا المعاصر: عبده حقي


عندما بدأت أكتب نصوصي الأولى على الحاسوب في نهاية التسعينيات، لم أكن أدرك أنني أنتمي إلى تحوّل سرديّ شامل ستُعيد فيه التكنولوجيا تشكيل الأجناس الأدبية والفنية كما نعرفها. كنت أعتقد، كأي كاتب ناشئ، أن النص ينتهي عند نقطة النهاية، وأن الخيال يسكن في الورق وحده. لكنّني، شيئًا فشيئًا، اكتشفت أن النص في العصر الرقمي ليس له حدود واضحة، وأنه أشبه بتيار كهربائي: لا يُرى، لكنه يضيء ما حوله.

لقد غيّرت الأجناس الرقمية، وعلى رأسها "فن الإنترنت" (Net Art) و"قصص وسائل التواصل الاجتماعي"، مفهوم الإبداع نفسه. لم يعد الإبداع مرتبطًا بالنتاج الفردي أو بالخصوصية اللغوية، بل صار قائمًا على التفاعل، على الصورة والنص والحركة، وعلى المساحات الرمزية الجديدة التي خلقتها المنصات الرقمية. وكأننا نعيش اليوم داخل متحف حيّ لا جدران له، حيث تُعرض القصص على شاشات صغيرة، وتتحول النقرات إلى نوع من القراءة العابرة للزمن والمكان.

من خلال تجربتي، وجدت أن فن الإنترنت لا يقف عند حدّ التعبير الفني عن طريق البرمجة أو الصورة المتحرّكة، بل إنه يربك القواعد الجمالية للأجناس التقليدية. فكما تقول أوليفيا سوليفان في كتابها  «Net Art and the Digital Imagination» (2020)، "فن الشبكة والخيال الرقمي" فإن هذا الفن يطمس الحدود بين القارئ والمبدع، بين الشكل والمحتوى. إنه جنس هجين، يولد من رحم اللغة والبرمجة والتصميم البصري في آنٍ واحد، ويتحدى مبدأ "العمل المغلق" الذي دافع عنه الشكلانيون.

في المقابل، تمثل قصص السوشيال ميديا (كـ"الستوري" في إنستغرام وفيسبوك) تجسيدًا يوميًا لهذا الانقلاب في الجماليات. فالقصة الرقمية في هذه المنصات قصيرة، لكنها غالبًا ما تحمل شحنة رمزية، وتُبنى من خليط من الصورة، الموسيقى، والإيماءة. إنها ليست أدبًا بالمعنى الكلاسيكي، لكنها نوع من "الحكي الشبكي" الذي ينبثق من اللحظة ويختفي بعد 24 ساعة، مثلما تتلاشى الذكرى في مخيّلة مثقلة بالضجيج. وكأن هذا الشكل العابر يريد أن يقول: “الزمن السردي اليوم لا يُقاس بالصفحات، بل بالنبضات.”

إن ما يُميز هذه الأجناس الرقمية، من وجهة نظري، هو قدرتها على دمج الإنسان في نسيج الآلة دون أن تقتله. فرغم كلّ الاتهامات التي وُجّهت للرقمية بكونها تُفرغ المعنى من العمق، فإننا نعيش اليوم أشكالًا جديدة من الإدراك والكتابة، كما أشار الناقد الفرنسي سيرج بوسكيت في دراسته حول “الأدب المتصل («Littérature connectée», 2019)، حيث يعتبر أن النصوص الرقمية قد تحوّلت إلى فضاءات حية تتنفس بتفاعل القرّاء، وتُعيد تشكيل اللغة وفق منطق تشاركي غير مسبوق.

قد يبدو هذا التحوّل مُقلقًا للبعض، خصوصًا لأولئك الذين تربّوا في كنف الورق وحميميّة الصفحة، لكنه بالنسبة لي ولأبناء جيلي هو فرصة للانخراط في مشروع أدبي وفني لا ينتهي. فكما كانت الحداثة الأدبية ثورة على البلاغة القديمة، فإن الرقمية اليوم تقترح نوعًا من الحداثة الثانية، لا تقوم على الكلمة وحدها، بل على تآلف الوسائط (Multimodality) وتشظي المعنى.

في هذا السياق، صارت الوسوم"الهاشتاغات" (Hashtags) بمثابة إشارات سيميائية جديدة، تُعيد ترتيب خرائط القراءة والذوق. بل إن القصيدة ذاتها، في أشكالها الرقمية، بدأت تتحرر من سجن الإيقاع الخطي، وتدخل فضاءً ميتاسرديًا، حيث تتداخل الصور المتحركة مع الأصوات والروابط الخارجية. أليس هذا شكلاً جديدًا من الشعر؟ شعراً يولد من الشاشة، ويكتب بلغة الـHTML  أحيانًا، أو بلغة "الفلتر" والصورة المفلترة؟

التحول الأجناسي الذي نعيشه لا يعني موت الأجناس القديمة، بل انفتاحها على أبعاد جديدة. الرواية لم تمت، لكنها صارت تُكتب أحيانًا على شكل تغريدات متسلسلة، أو ضمن لعبة تفاعلية. المقالة النقدية لا تزال قائمة، لكنها قد تُرفق اليوم بخريطة ذكية أو تصميم بصري تفاعلي. القصيدة ما زالت موجودة، لكنها تحاكي الضوء والصوت أكثر من التفعيلة أو القافية.

إننا في المغرب، كما في سائر دول الجنوب، نعيش هذا التحول بنوع من التردّد. لا تزال المؤسسات الثقافية متأخرة عن اللحظة الرقمية، لكنّ الأفراد، خاصة الشباب، يُبدعون في الظل، على المنصات، من دون دعم، من دون اعتراف رسمي. وهذا ما يدفعني، ككاتب، إلى التفاعل مع هذه التحولات لا من موقع الدفاع عنها أو الخوف منها، بل من موقع الفاعل المندهش، الذي يرى أن الخيال البشري أوسع من أن يُحبس في نوع واحد أو شكل واحد.

في النهاية، لا أعتقد أن المستقبل الأدبي سيُحسم بين الورقي والرقمي، بين الرواية والبودكاست، أو بين القصيدة والفيديو القصير، بل سيحسم في قدرة كل نصّ على البقاء داخل الذاكرة، داخل القلب، وعلى إحداث أثر. فالأثر، في نهاية المطاف، هو الجوهر الخالد لكل إبداع، سواء كُتب بالريشة أو بالبرمجة.

0 التعليقات: