حين كتب المفكر الأمريكي نيل بوستمان (Neil Postman) كتابه Technopoly: The Surrender of Culture to Technology سنة1992، كان يستشرف ما يمكن أن نسميه اليوم "الهيمنة الشاملة للتكنولوجيا"، وهي حالة تصبح فيها التقنية لا مجرد وسيلة لخدمة الإنسان، بل مقياسًا وحيدًا للحقيقة، والتقدم، والمشروعية. في هذا الكتاب الجريء، لا يكتفي بوستمان بانتقاد بعض مفرزات التكنولوجيا الحديثة، بل يتّخذ منها موضوعًا فلسفيًا ليحلّل كيف تُخضِع التقنية الثقافة الإنسانية بأكملها، وتحوّل الإنسان من فاعلٍ حرّ إلى تابعٍ لأدواته.
يقدّم بوستمان في بداية
الكتاب تصنيفًا ثلاثيًا لتطوّر العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا:
1. الثقافة الأداتية (Tool-using culture): حيث تُستخدم الأدوات لخدمة حاجات دينية أو
اجتماعية أو مادية، دون أن تتحوّل إلى مركز للمعرفة أو السلطة.
2. الثقافة التكنوقراطية (Technocracy): حيث تبدأ التكنولوجيا بالتأثير في البنى السياسية
والتعليمية والاجتماعية، لكنها لا تزال تواجه مقاومة من المرجعيات الثقافية والدينية.
3. ثقافة التكنوبولي (Technopoly): وهي ذروة الانقلاب، حيث تصبح التكنولوجيا
المرجع الوحيد لكل قرار، وتُختزل القيم والمعرفة في ما يمكن قياسه وحسابه وتحليله كمّياً.
بحسب بوستمان، فإن
الولايات المتحدة – وهي الحالة النموذجية التي ينطلق منها – انتقلت تدريجيًا إلى هذا
الشكل الثالث، حيث لم تعد التكنولوجيا "وسيلة" بل "غاية" و"معتقدًا"،
يُفترض أنه قادر على حل جميع المشاكل، وأنه بديل للمعنى، وللقيم، وللثقافة.
من أهم الأطروحات في *تكنوبولي*، تأكيد بوستمان أن المعلومات
لم تعد في خدمة الحكمة أو الفهم، بل أصبحت غاية قائمة بذاتها. في مجتمع التكنوبولي،
لا يتم تقييم المعلومة على أساس فائدتها أو علاقتها بالقيم الإنسانية، بل تُضخّ المعلومات
بكميات هائلة، بلا سياق، في ما يُعرف بـ"فيض المعلومات" (Information glut). وهنا يستحضر بوستمان العبارة الساخرة:
"لدينا وفرة في المعلومات، لكننا نفتقر إلى المعنى".
يذهب بوستمان إلى أن
هذا الانفجار المعلوماتي – خاصة مع صعود الحاسوب – يُنتج مجتمعًا يُعاني من "الضياع
السياقي"، حيث تفقد المعرفة جذورها الثقافية والأخلاقية، ويتحوّل الإنسان إلى
مجرد مستقبل سلبي لمحتويات رقمية مفككة.
لم يكن التعليم بمنأى
عن هذه الهيمنة التقنية. ينتقد بوستمان اعتماد المؤسسات التعليمية على الآلات والتقنيات
التعليمية الحديثة دون مساءلة. يرى أن إدخال الحاسوب إلى الصف الدراسي ليس محايدًا،
بل يعكس تصورًا معينًا عن المعرفة، يختزل التعلم في الأداء والكفاءة، ويقصي القيم الإنسانية
والجدل الفلسفي والنقاش المفتوح.
في هذا السياق، يقول
بوستمان إن المدرسة لم تعد تُعلّم التفكير النقدي، بل تُعلّم كيفية استخدام الأدوات،
وهذا تحوّل خطير يُخرج المؤسسة التعليمية من كونها فضاء للمعنى والحرية إلى مجرد مركز
تدريب تقني.
من المواضيع المحورية
في الكتاب أيضًا، نقد بوستمان لما يسميه "الأسطورة الرقمية للموضوعية". فالاعتماد
المفرط على الإحصاءات، والأرقام، والتحليلات الكمية، يُوهمنا أننا نصل إلى الحقيقة
بطريقة علمية، بينما يتم إقصاء عناصر أساسية في الحكم الإنساني، كالسياق، والقيم، والحدس
الأخلاقي. التقنية، في نظر بوستمان، لا تستطيع أن تُجيب عن سؤال: "ما الذي يجب
فعله؟"، لأنها لا تتضمن مبدأً أخلاقيًا داخليًا.
يمكن مقارنة طرح بوستمان
بمفكرين آخرين حذّروا من عبودية التكنولوجيا، مثل جاك إيلول في كتابه "النظام
التكنولوجي"، وهربرت ماركوز في "الإنسان ذو البعد الواحد". إلا أن تميّز
بوستمان يكمن في أسلوبه السلس، وأمثاله الحية من الثقافة الأمريكية، واهتمامه العميق
بالإعلام والتعليم.
كما يمكن القول إن
أطروحات بوستمان اليوم تبدو نبوئية. فما كان ينطبق على الحاسوب والتلفاز في التسعينيات،
يمكن أن ينطبق بدرجة أعمق على الذكاء الاصطناعي، وخوارزميات وسائل التواصل، وتحليل
البيانات الضخمة. لقد أصبحنا نعيش – فعلاً – في "تكنوبولي معولم"، لا يقتصر
على بلد أو ثقافة.
رغم النبرة النقدية
القوية، لا يطرح بوستمان في *تكنوبولي* رؤية رجعية أو معادية للتكنولوجيا. هو لا يدعو إلى العودة إلى العصر الحجري،
بل إلى استعادة السيطرة الإنسانية على أدواتها. هو يدعو إلى ثقافة نقدية تضع التكنولوجيا
في سياقها، وتخضعها لأسئلة المعنى، لا أن تخضع لها.
إن قراءة *تكنوبولي* اليوم ليست مجرد تمرين فكري، بل دعوة عاجلة
إلى مساءلة موقع الإنسان في عالم تُديره الخوارزميات، وتُحدّده الشاشات.
0 التعليقات:
إرسال تعليق