الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، أغسطس 09، 2025

تحوّل أزمة الجزائرمع فرنسا إلى مواجهة مع أوروبا : عبده حقي


في السادس من أغسطس 2025، سجّل التاريخ منعطفًا حادًا في مسار الأزمة الجزائرية-الفرنسية، إذ انتقلت المواجهة من دائرة الشد والجذب السياسي إلى مرحلة العقوبات المباشرة التي تمسّ قطاعات واسعة من الشعب الجزائري. ما كان يُنظر إليه منذ عام على أنه أزمة دبلوماسية قابلة للاحتواء، تحوّل فجأة إلى صدام مفتوح، بعدما قرر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التخلي عن سياسة التهدئة التي تبناها منذ اندلاع الخلاف في يوليو 2024، والالتحاق بخط الصقور داخل حكومته.

لطالما حاول ماكرون، على مدى شهور الأزمة، الحفاظ على قنوات التواصل مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، معتمدًا على لغة الحوار والبحث عن حلول وسط. إلا أن ما يسميه في رسالته الأخيرة "الجمود المطلق" في التعاون الجزائري، خاصة في الملفات الأمنية والهجرة غير النظامية، دفعه – حسب تعبيره – إلى "تغيير جذري في النهج".

الوثيقة التي فجرت الجدل، وهي رسالة من ثلاث صفحات موجّهة إلى رئيس الوزراء فرانسوا بايو، تضمنت أوامر واضحة: فرض عقوبات جديدة وصارمة على شخصيات جزائرية، وتعليق العمل بالاتفاقات التي منحت الدبلوماسيين الجزائريين امتيازات دخول الأراضي الفرنسية دون تأشيرة، بل وتوسيع نطاق هذه القيود إلى كامل فضاء "شنغن" عبر التنسيق مع الشركاء الأوروبيين. هذه النقطة تحديدًا تحمل دلالة عميقة، إذ تسعى باريس لتحويل خلافها الثنائي مع الجزائر إلى ملف أوروبي موحّد ضدها.

لكن التحول الأخطر في القرار الفرنسي يتمثل في إيقاف منح التأشيرة من فئة  D، أي تأشيرة الإقامة الطويلة. هذا النوع من التأشيرات لا يهم النخب السياسية بقدر ما يمس فئات واسعة من المواطنين:

الطلاب الجزائريون، الذين يشكلون ثالث أكبر جالية طلابية في فرنسا بعد الصين والمغرب، لن يتمكنوا من الالتحاق بالجامعات الفرنسية.

المستفيدون من لمّ الشمل الأسري، وهم أكثر من نصف المهاجرين الجزائريين إلى فرنسا سنويًا، ستتوقف ملفاتهم، ما يعني تفكك أسر وحرمان الأزواج من الاجتماع.

العمال والكوادر المتعاقدة، وكذلك الأئمة والباحثون، ستتوقف عقودهم قبل أن تبدأ.

بهذه الخطوة، لم تعد الأزمة محصورة في النخبة السياسية والعسكرية، بل انزلقت إلى عمق المجتمع الجزائري، مستهدفة فئات كانت فرنسا تشكل لها وجهة أساسية للدراسة والعمل والاستقرار.

الرسالة الرئاسية الفرنسية لم تكتف بإعلان الإجراءات، بل فسّرت دوافعها. فقد اتهم ماكرون الجزائر باستخدام "ورقة الهجرة" كسلاح ضغط، بعد أن تراجعت نسبة إصدار التصاريح القنصلية لترحيل المهاجرين من 40% إلى أقل من 4% خلال عام، ما جعل آلاف الموقوفين – بعضهم متورط في جرائم – عالقين داخل فرنسا. ومع تصاعد ضغط اليمين واليمين المتطرف، واحتدام الخطاب العام حول الهجرة، لم يعد الرئيس الفرنسي قادرًا على تبرير سياسة المهادنة أمام الرأي العام.

النتيجة المباشرة أن الامتيازات التي حصل عليها حاملو الجوازات الدبلوماسية والخدمة الجزائريون، بموجب اتفاقي 2007 و2013، تم تجميدها رسميًا. بل أكثر من ذلك، تسعى باريس لإقناع دول أوروبية أخرى برفض استقبال هؤلاء حتى عبر مداخل شنغن البديلة، مثل إيطاليا أو إسبانيا أو سلوفينيا.

على الصعيد الإنساني والاجتماعي، تبدو التداعيات ثقيلة. فالجالية الجزائرية في فرنسا، التي تُقدّر بملايين الأشخاص، تربطها علاقات عائلية وثيقة بالداخل الجزائري. حرمان الطلاب من الدراسة، وإغلاق باب لمّ الشمل، وتعقيد فرص العمل، كلها عوامل ستخلق جروحًا اجتماعية عميقة، وتغذي مشاعر الغضب والإحباط.

وفي ظل هذا التحول، تُطرح أسئلة عن المدى الذي يمكن أن تبلغه هذه المواجهة. هل ستتراجع الجزائر وتعيد تفعيل التعاون القنصلي؟ أم سترد بالمثل، فتدخل العلاقات الثنائية في مرحلة جمود طويل الأمد؟ المؤكد أن ما حدث في أغسطس 2025 ليس مجرد إجراء إداري، بل هو تغيير في قواعد اللعبة، حيث تحوّلت لغة المصافحة إلى لغة العقوبات، وفتحت فرنسا الباب لتحويل نزاعها مع الجزائر إلى ملف أوروبي شامل، ستكون له ارتدادات سياسية واجتماعية واسعة على ضفتي المتوسط.

0 التعليقات: