الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، يونيو 17، 2025

قراءة على حافة الشاشة: حين تُلامس الأدب أصابع الضوء: عبده حقي


أنا ، من جيلٍ تربى على ملمس الورق، على دفء الكتب بين راحتي اليد، وعلى صمت المكتبات الذي يشبه صمت المساجد في حضرة التأمل. غير أنني، ككل أبناء هذا العصر، لم أسلم من جاذبية الشاشة. ولم أعد أميز، أحياناً، إن كنت أقرأ أم أُبحر؛ إن كنت أتتبع خيط المعنى أم أُدمن انزلاق إصبعي على السطح الزجاجي. القراءة تغيّرت، بل تغيّرت علاقتي بها، وأصبحتُ أشعر كمن يستبدل رائحة الخبز الطازج برائحة الضوء الصناعي.

في زمن الشاشات، لم تعد القراءة فقط أداة للمعرفة أو ملاذاً للعزلة الروحية، بل أصبحت جزءاً من تفاعلاتي اليومية، من نمط استهلاكي، ومن اقتصاد الانتباه. أصبحت الكتب نفسها – كما حذّر نيكولاس كار في كتابه *The Shallows: What the Internet Is Doing to Our Brains*  ضحية لتشتت الإدراك، حيث لم يعد القارئ يصبر على قراءة فصلٍ طويل، ولا على فكرة معقدة تحتاج إلى تأمل وتدرّج. لقد استعجلنا المعنى، وقزّمنا التجربة إلى "اقتباس قابل للمشاركة"، إلى "سطرٍ أنيق على خلفية فاتنة"، إلى شعور سريع الزوال.

أكاد أجزم أن الأدب لم يعد يُقرأ بنفس الطريقة التي كان يُقرأ بها قبل ربع قرن. القراءة على الشاشة تغير كل شيء: العين، الزمن، حتى الجسد. لم نعد ننغمس كما كنا؛ صرنا نُمسك النص من أطرافه، كما تُمسك الفراشة بجناح الزجاج، دون أن تجرؤ على البقاء. "كل نصٍ إلكتروني هو نصٌ قابل للهروب"، كما يقول الباحث إسبن آرسيت في دراسته حول الأدب الإلكتروني. إن فكرة "الانغماس" التي كانت السمة الأولى للتجربة الأدبية بدأت تفسح المجال لفعلٍ تفاعلي، شارد، متعدد المهام.

لكن هل هذا تحوّل مأساوي؟ أم أنه تحوّل إبداعي يفتح آفاقاً جديدة؟ شخصياً، لا أؤمن بالحكم الأخلاقي على التكنولوجيا. فالكتابة، كما قال فالتر بنيامين، لم تكن يوماً بريئة. كل وسيلة تعبّر عن روح زمنها، ونحن الآن في زمن البيانات، في زمن الحيّز المرئي الذي يغلب على المجرد، زمن القارئ الذي يتنقل بين قصيدة على إنستغرام، ورواية تفاعلية، ومقال علمي في صيغة بودكاست. لم يعد النص فقط حروفاً؛ صار صوتاً، صورة، حركة، رابطاً. وصار القارئ منتجاً للنص بقدر ما هو متلقٍ له.

ولعل أخطر ما نشهده اليوم هو اختفاء فعل "التوقف"، لحظة التأمل تلك التي كانت تمنحنا المسافة مع النص، وتتيح للمجاز أن يتنفس. نحن نعيش في لحظة صرّح عنها نيل بوستمان في كتابه *Amusing Ourselves to Death* بأنها "ثقافة الترفيه"، حيث يتم ترويض الخطاب الثقافي ليتوافق مع منطق الشاشة: السرعة، المتعة، والتفاعل اللحظي. السؤال الذي يطاردني هو: هل لا زالت هناك إمكانية لنصٍ يُقرأ ببطء، يُذَاق كما يُذَاق الشاي المنقوع، لا كما يُبتلع القَهوة على عجل؟

ورغم هذا القلق المشروع، لا أنكر أنني اكتشفت، عبر الشاشة، عوالم أدبية ما كنت لأصل إليها في زمن الورق فقط. تعرفت على كتاب من كوريا الجنوبية، وقرأت قصصاً قصيرة من نيجيريا، وتصفحت أعمالاً سردية تشاركية عبر الإنترنت. كأن الشاشة – بكل تناقضاتها – منحت الأدب بُعداً كونيًا، وحولته من فعلٍ نخبوّي إلى نشاط مفتوح، شجاع، متاح لكل من يملك اتصالاً.

هل فقدنا شيئاً؟ نعم. هل ربحنا شيئاً؟ بالتأكيد. فقدنا كثافة التجربة الحسية، وربحنا اتساعاً لم يكن ممكناً. ومع ذلك، أشعر أحياناً أن الشاشة لا تقرأ بقدر ما تلمس، لا تُصغي بقدر ما تمرّ. نحن نحتاج إلى نمط قراءة هجين، لا يُقصي الورق ولا يقدّس الشاشة، بل يدمج بين الهدوء العميق والمغامرة الرقمية. نحتاج إلى تربية جديدة للقارئ، تربية تجعل من "الوعي بالقراءة" شرطاً قبل القراءة نفسها.

القراءة في عصر الشاشات ليست نقيضاً للقراءة التقليدية، بل هي طور جديد، مؤلم أحياناً، وخصب في أحيان أخرى. وأنا كمغربي، أرى في هذا التحول فرصة لإعادة تعريف علاقتنا بالنص، ولإنتاج أدبٍ لا يخجل من أدواته، بل يطوّعها لصالح المعنى. فالشاشة، مهما كانت مضيئة، لا تمنحنا النور. وحده المعنى يفعل.

0 التعليقات: