في كتابه المؤثر "فقاعة التصفية: ما يخفيه الإنترنت عنك
The Filter
Bubble: What the Internet is Hiding from You، يقدّم الكاتب الأمريكي إيلي باريزر Eli Pariser تشخيصًا مبكرًا وعميقًا لمشكلة باتت اليوم
أكثر تجذرًا وخطورة: كيف تسهم الخوارزميات في محاصرة المستخدم داخل دائرة ضيقة من المعلومات،
مبنية على تفضيلاته السابقة، وتُقصيه تدريجيًا عن التنوع المعرفي والآراء المخالفة.
الكتاب، الذي صدر عام 2011، يُعد من أولى الأعمال الفكرية التي تناولت بنقد منهجي ما يُعرف اليوم بـ"الفقاعات المعلوماتية"، حيث لا يعود المستخدم يرى إلا ما يرغب في رؤيته، ويُحرم من الحق الأساسي في الاطلاع على الآخر، المختلف، المخالف، أو حتى المفاجئ.
يستعرض باريزر في بداية
الكتاب خلفية هذا التحوّل، حين بدأ محرك البحث "غوغل" في تخصيص نتائج البحث
حسب الشخص، ابتداءً من عام 2009، بحيث لم يعد اثنان يحصلان على نفس النتائج عند البحث
عن نفس الكلمات. تبعتها لاحقًا شبكات التواصل مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب، التي أخذت
تصمّم محتواها وخوارزمياتها بناءً على ما يتجاوب معه المستخدم: ما يُعجبه، وما يشاركه،
وما يتوقف عنده للحظة أطول.
ويشبّه الكاتب هذه
العملية بفقاعة شفافة: أنت داخلها، ترى العالم من خلالها، لكنك لا تلاحظ أن هناك حاجزًا
يفصلك عن بقية الواقع. هي فقاعة لأنها ناعمة، مغرية، مريحة، ولكنها أيضًا تخنق الحقيقة
وتمنع المفاجآت الفكرية.
يحذر باريزر من أن
هذا "التخصيص الذكي" الذي قد يبدو بريئًا في ظاهره – كأن تقترح عليك منصة
مقاطع فيديو أو كتبًا مشابهة لما أحببته سابقًا – يتحول إلى خطر سياسي ومعرفي. فالمستخدم،
بدل أن ينفتح على طيف واسع من المعلومات، ينغلق تدريجيًا على دائرة ضيقة، تُغذى باستمرار
بما يُرضيه فقط. ومع الوقت، يفقد قدرته على تقبّل الآراء المختلفة، بل وقد يظن أنها
غير موجودة أصلًا.
ويشير في هذا السياق
إلى الانتخابات الأمريكية، حيث أظهرت الدراسات لاحقًا كيف ساهمت هذه الفقاعات في تعميق
الانقسام السياسي، وجعلت الحوار شبه مستحيل، لأن كل طرف يعيش في عالمه الخاص من الحقائق
والاقتناعات.
قبل ظهور هذه الخوارزميات،
كان يُنظر إلى الإنترنت باعتباره فضاءً حُرًّا، ديمقراطيًا، يسمح بالوصول إلى كل شيء،
من كل مكان. لكن مع صعود "اقتصاد الانتباه" وسباق الشركات لجذب أعين المستخدم،
تغيّرت المعادلة. فالخوارزميات أصبحت لا تخدم الحقيقة، بل تخدم ما يحبس المستخدم أطول
فترة ممكنة أمام الشاشة. وهنا يتحوّل الاهتمام إلى عملة، وتُصمَّم المنصات بناءً على
سلوكياتك لا على احتياجاتك العقلية أو الأخلاقية.
وفي هذا السياق، يقول
باريزر جملة لافتة للنظر هي : "إذا لم تدفع ثمن المنتج، فأنت هو المنتج."
أي أن المستخدم العادي ليس زبونًا بقدر ما هو مادة خام في سوق الإعلانات، وعقله هو
السلعة.
في الفصول الأخيرة،
يحاول باريزر طرح أسئلة جوهرية: هل يمكن كسر هذه الفقاعة؟ وهل من مسؤولية أخلاقية تقع
على عاتق شركات التكنولوجيا تجاه المستخدمين؟ يقترح في هذا السياق ضرورة الشفافية في
الخوارزميات، وأن يُمنح المستخدم الحق في معرفة لماذا يرى هذا المحتوى دون غيره، بل
وحتى إمكانية تعديل إعدادات "الفقاعة" التي تحيط به.
كما يدعو إلى أهمية
التثقيف الرقمي، أي تدريب الأفراد منذ الصغر على إدراك وجود هذه "الفلترة الخفية"،
وعلى تنويع مصادر معلوماتهم، وعدم الانجراف وراء ما يُعرض عليهم تلقائيًا.
في المغرب، كما في
العديد من الدول العربية، تشكّل "فقاعة التصفية" جزءًا ملموسًا من الحياة
اليومية لمستخدمي الإنترنت، خصوصًا على وسائل التواصل الاجتماعي. لقد أصبح العديد من
المستخدمين يعتمدون على صفحات وفيديوهات وتغريدات تُكرّر نفس الآراء وتُعزز نفس المواقف،
دون أن تعرّضهم لوجهات نظر مغايرة أو لأسئلة مزعجة.
وفي المواسم الانتخابية
أو خلال الأزمات السياسية، يتحول فيسبوك وتويتر ويوتيوب إلى منصات للاستقطاب الحادّ.
كل فئة تتحدث إلى جمهورها، وكل خوارزمية تضمن أن يظل هذا الجمهور داخل الحلبة نفسها.
النتيجة: انغلاق مجتمعي، وتراجع في القدرة على الحوار، وتضخم في وهم اليقين.
كما أن الإعلام البديل
في المغرب، رغم بعض مزاياه، أصبح بدوره رهينة الخوارزميات. فالكثير من الصفحات اليوتيوبية
والشخصيات المؤثرة تلجأ إلى المبالغة أو الخطاب الحاد لجذب المشاهدات، مما يعمّق الأزمة
ويغذّي فقاعة معلوماتية لا تُرى من خارجها.
وفي العالم العربي
عمومًا، نلاحظ تفشي ظواهر خطاب الكراهية، ونظريات المؤامرة، والانقسامات الطائفية،
وكل ذلك يجد له بيئة حاضنة في فضاءات رقمية لا تُظهِر للمستخدم سوى ما يشبهه. هنا،
تتحول فقاعة التصفية إلى أداة لإعادة إنتاج الانقسام، بدل أن تكون وسيلة لفهمه أو تجاوزه.
رغم مرور أكثر من
13 عامًا على صدور فقاعة التصفية، فإن أفكاره تبدو اليوم أكثر حضورًا وإلحاحًا. فمع
صعود الذكاء الاصطناعي، والتعلّم العميق، وتزايد الاعتماد على الخوارزميات في توصيات
المحتوى وحتى اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية، بات من الضروري أكثر من أي وقت
مضى استعادة السيطرة على مسارات المعرفة، وفضح الانغلاق الذي يُفرض علينا بشكل غير
مرئي.
ولا يمكن إغفال كيف
ساهمت هذه الفقاعات في صعود نظريات المؤامرة، وتضخيم خطاب الكراهية، وتأجيج النزاعات
الثقافية، كما حصل مع أزمة كوفيد-19، أو الحرب الروسية الأوكرانية، أو حتى الخلافات
الدينية والطائفية في العالم العربي.
إن فقاعة التصفية ليس
مجرد كتاب عن الإنترنت، بل هو تنبيه فلسفي عميق إلى أننا، في بحثنا عن الراحة الرقمية،
قد نكون فقدنا أعزّ ما نملك: القدرة على رؤية العالم كما هو، لا كما يُراد لنا أن نراه.
وباريزر لا يدعو إلى رفض التكنولوجيا، بل إلى إعادة توازن علاقتنا بها، وتأكيد أن الحرية
المعرفية تتطلب، أولًا، الوعي بالمصفّاة التي تمر عبرها معلوماتنا كل يوم.
0 التعليقات:
إرسال تعليق