الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، يونيو 14، 2025

حين تعلّق الصحافة المجهر على أعين الخوارزميات: من التحقيق إلى التدفق: عبده حقي


كنتُ أؤمن أن التحقيق الصحفي هو أرفع أشكال الممارسة الإعلامية، لأنه يشبه إلى حدّ بعيد عمل العالم الذي لا يكتفي بالملاحظة السطحية، بل يغوص في طبقات العتمة بحثًا عن الأسباب، والمصادر، والحقيقة كما هي، لا كما تُروى. ولكن مع تحوُّل الصحافة نحو الرقمي، وجدت نفسي، كصحفي مغربي شهد التحول من الورق إلى الشاشة، أقف أمام سؤال وجودي: هل نجا التحقيق الصحفي من التحوّل الرقمي؟ أم أنه أصبح فريسة للسرعة، والتفاعل، والخوارزميات؟

في المشهد الرقمي المعاصر، لم تعد الصحافة تكتب لتقرأ، بل لتُشارك. وهذا ما أشار إليه «جاي روزن» في دراسته عن "الصحافة التشاركية"، حيث لم يعد الخبر ملكًا للصحفي وحده، بل لمستخدِم يعيد إنتاجه، ويتفاعل معه، أو يُحرفه، في زمن اللايقين الرقمي. والنتيجة؟ تحولٌ تدريجي من تحقيقات معقّدة، تمتد لأسابيع وربما شهور، إلى مقاطع فيديو مقتضبة، وصور عنوانية، ونصوص قابلة للتداول السريع أكثر من قابليتها للتحقق.

حين أنظر إلى تجارب بعض المنصات الرقمية العالمية مثل «ProPublica» أو

«The Intercept، أُدرك أن التحول الرقمي ليس بالضرورة كارثة على الصحافة التحقيقية، بل هو فرصة مشروطة. شرطها أن تظل القيم الصحفية راسخة رغم زلزال التقنية. لقد استطاعت تلك المنصات أن تستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة لتعزيز قدرتها على الوصول إلى المعلومات المخبّأة خلف الجدران البيروقراطية.

لكن في السياق المغربي والعربي عمومًا، تبدو الصورة أكثر تعقيدًا. إذ لا تزال الصحافة الاستقصائية في طور الدفاع عن وجودها، بين ضغوط السوق، والمضايقات السياسية، وعسر الوصول إلى المعلومة، رغم ما تنص عليه القوانين. فهل امتلكنا نحن، الصحفيين في الجنوب الرقمي، الأدوات اللازمة للعبور إلى صحافة تحقيق رقمية حقيقية، أم أننا فقط نعيد إنتاج "صحافة الإثارة" ولكن بأدوات رقمية هذه المرة؟

في دراسة أعدّها «مرصد أخلاقيات الصحافة الرقمية العربي» سنة 2023، تبيّن أن 72٪ من المواد المصنفة كتحقيقات على المواقع العربية لا تستوفي المعايير الأساسية للتحقيق الصحفي، مثل التوثيق المتعدد، والتوازن في الآراء، والاعتماد على مصادر مباشرة. بل إن بعضها لا يخرج عن كونه "تحليلاً طويلًا" أو "مقال رأي موسّع"، أُلبس لباس التحقيق لخداع الخوارزمية وجذب الجمهور.

لقد أصبح المحرّر الرقمي يبحث عن "قابلية المشاركة" أكثر من "قابلية الكشف"، عن الصيغة الجذابة أكثر من السؤال المحرِج. ولا غرابة أن تتراجع المواضيع العميقة لصالح العناوين المثيرة، وأن يتصدّر المشهد صحفيون رقميون أكثر براعة في تركيب العناوين من تفكيك الوقائع. فكيف يستطيع التحقيق أن يصمد في بيئة لا تقرأ بل تمرّر، ولا تنتظر بل تستهلك؟

رغم هذه الصورة القاتمة، لا أخفي أملي الضئيل، الذي يتغذّى من تجارب شبابية صاعدة في المغرب وشمال إفريقيا، توظّف التكنولوجيات الرقمية ليس فقط للنشر، بل للتحقيق نفسه: باستخدام أدوات مفتوحة المصدر للتحقق من الصور والفيديوهات، وتعقب المال السياسي عبر بيانات الشركات، وتتبع مسارات الأخبار الزائفة. لقد التقيت بأحد هؤلاء الصحفيين في ندوة إعلامية بالرباط، وكان يُحلّل بنية الأخبار السياسية الزائفة كما يُحلل عالم أنثروبولوجي لغة الطقوس.

لكن هذا الأمل لا يمكن أن يثمر دون منظومة داعمة: تشريعات تضمن حق الوصول إلى المعلومة، مؤسسات إعلامية تؤمن بالتحقيق لا بالتسويق، ونماذج تمويل بديلة تحرّر الصحفي من قبضة المعلن أو ممول الظل. فكما كتب الصحفي الفرنسي «لوران ماديو» في كتابه «“L’investigation en péril”، فإن “الصحافة الاستقصائية لن تُغتال بالمنع، بل بالإهمال، حين لا تجد من يمولها ولا من يحميها ولا من يقرأها.

إن الصحافة الرقمية اليوم تقف عند مفترق طريق: إما أن تتحول إلى "سيرك إعلامي" هدفه هو جذب الأنظار، أو أن تتسلح بالتحقيق كقيمة، وتوظف أدوات الرقمنة لا لتفكيك الحقيقة، بل للوصول إليها رغم كل الضجيج.

وبين هذين الخيارين، أجد نفسي كمغربي وكصحفي ملتزم، أختار المقاومة بالقلم، والشك بالمنهج، والسؤال كأساس لأي سردية. فالتحقيق ليس فقط ممارسة إعلامية، بل فعل وجودي في زمن يصنع فيه الذكاء الاصطناعي “حقائق بديلة”. وفي هذا الزمن، لا تكفينا الحكاية… نحتاج الحقيقة، مهما كان الثمن.

0 التعليقات: