الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، يونيو 22، 2025

دراسة كيف تُخدّر أدوات الذكاء الاصطناعي مهاراتنا المعرفية؟ ترجمة عبده حقي


منذ صعود الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى الواجهة، وخاصة أدوات مثل شات جي بي تي، تغيرت علاقة الإنسان بالمعرفة جذريًا. لم نعد نبحث عن الأفكار ببطء وشغف كما كنا نفعل مع الكتب والمكتبات الرقمية، بل أصبحنا نتوقع من خوارزمية أن تقدّم لنا المعرفة مصقولة، مغلفة، ومهيأة للنشر. غير أن دراسة حديثة صادرة عن معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)  أماطت اللثام عن ثمن خفي لهذا "الترف المعرفي"، إذ كشفت أن الاعتماد على أدوات الذكاء الاصطناعي في مهام الكتابة يؤدي إلى انخفاض واضح في نشاط الدماغ والوظائف المعرفية، مقارنة بمن يستخدمون محركات البحث أو يعتمدون على قدراتهم الذاتية في التحليل والصياغة.

ليست هذه النتائج صدمة بقدر ما هي مرآة لواقع بدأ يتشكل تدريجيًا في عقولنا. فالعقل الذي لا يُجهد نفسه في إنتاج اللغة، في ترتيب الحجج، في بناء الأفكار، هو عقل يميل إلى الخمول. وكأننا نستبدل الحفر العميق في صخور الفكر بجولة سريعة على سطح بحر اصطناعي.

تشير الدراسة إلى أن الأفراد الذين اعتمدوا على شات جي بي تي لإنتاج نصوص، أظهروا مستويات أقل من النشاط في مناطق الدماغ المسؤولة عن التفكير النقدي، التذكر، والمعالجة اللغوية. إن هذا التراجع لا يبدو مؤقتًا فحسب، بل ينذر بإمكانية حصول "ضمور معرفي تدريجي" إذا أصبح الذكاء الاصطناعي بديلاً لا شريكًا في عملية التفكير. وكأن الذكاء الاصطناعي لا يضيف طبقة جديدة على وعينا، بل يحفر تحته فجوة قد تبتلع قدراتنا تدريجيًا.

في كتابه  «The Shallows: What the Internet Is Doing to Our Brains، المياه الضحلة: ما يفعله الإنترنت بأدمغتنا يحذر نيكولاس كار من أن الإنترنت يعيد تشكيل عقولنا، وأنه كلما زاد اعتمادنا على الوسائط الرقمية، قلّ تركيزنا وعمق تفكيرنا. لكن ما حذّر منه كار قبل أكثر من عقد، بات اليوم مضاعفًا مع أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي التي لا تكتفي بتقديم المعرفة، بل تنتجها نيابة عنا. لم نعد أمام "توزيع للانتباه"، بل أمام "تفويض للتفكير".

هذا الطرح لا يعني التقليل من أهمية الذكاء الاصطناعي في تسهيل المهام، ولا إنكار فضله في تسريع الوصول إلى المعلومة، بل يعني ضرورة طرح سؤال أخلاقي ومعرفي: ما الحد الفاصل بين الاستخدام كأداة والاستخدام كعكاز؟ وهل نخاطر بترك مهارات الكتابة والتحليل تذبل في ظل وفرة أدوات تصيغ لنا الجُمل وتصنّع لنا الأفكار؟

يرى المفكر الألماني يورغن هابرماس في كتابه «الفضاء العمومي» أن تدهور النقاش العقلاني مرتبط بتراجع استقلالية الأفراد في التفكير. وإذا صحّ هذا المنطق، فإن الذكاء الاصطناعي اليوم قد لا يهدد فقط الكتابة الفردية، بل يضعف نسيج الحوار المجتمعي ذاته، ما دامت الأفكار لم تعد نتاج مجهودات عقلية شخصية، بل استيرادًا من عوالم خفية لا نعرف خوارزمياتها، ولا نُدرك تحيّزاتها.

في هذا السياق، تصبح أدوات الذكاء الاصطناعي شبيهة بالمصابيح التي تضيء الطريق ولكن تحجب عنك متعة الاستكشاف. قد تنير لك الجواب، لكنها تغلق أمامك باب السؤال. وربما هذا ما قصده الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن حين أكد في كتبه مثل «سؤال الأخلاق» أن التقنية إذا ما فُصلت عن البعد القيمي، فإنها قد تنقلب إلى سلاح ضد الإنسان لا في جسده، بل في جوهره.

المفارقة أن ما يُروّج له اليوم بوصفه "ثورة معرفية" قد يكون في جانب منه ثورة ضد المعرفة بمعناها العميق، إذ لا يُمكن أن نعتبر أن النص المنتَج عبر الأتمتة يُعادل النص الناتج عن معاناة فكرية، وتأمل لغوي، وصراع داخلي بين الصواب والخطأ، بين ما يُقال وما يُسكت عنه.

أمام هذا الواقع، لا بد من إعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والتقنية. أن نستخدم الذكاء الاصطناعي كما نستخدم القلم، لا كما نستخدم العقل. أن نُدخله في ورشاتنا الفكرية لا ليستبدلنا، بل ليحفّزنا. فالفارق بين التفاعل والتبعية دقيق وخطير.

وفي الختام، يبدو أن سؤال الملكية المعرفية في زمن الذكاء الاصطناعي ليس قانونيًا فقط، بل معرفيًا وأخلاقيًا. هل نملك نحن حقًّا ما لم ننتجه؟ هل يمكننا أن ندّعي الفهم ونحن لم نمرّ عبر مسار التفكير؟ إنها أسئلة يجب أن تطرح بجرأة في الجامعات، وفي الصحافة، وفي كل مساحة تزعم الدفاع عن الفكر الحر.

فالعقل الذي لا يُمارَس، يشبه عضلة لا تُحرّكها التمارين: تبدأ بالتراخي، ثم بالذبول، ثم بالغياب.

0 التعليقات: