الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، يونيو 22، 2025

من يملك كلماتنا في العصر الرقمي؟ سؤال تتوارى خلفه معارك لا تُرى: عبده حقي


في كل مرة أضغط على زر "نشر" على أي منصة رقمية، يتملكني شعور غريب يشبه الخوف الممزوج بالتجرد: هل ما كتبته ما زال ملكًا لي؟ أم أنه أصبح قطعة من جسدٍ رقميّ هائل لا أعرف من يتحكم فيه؟ ككاتب مغربي تربى في حضن الورق، وتمرّس في حبر الحريّة، لم يكن الانتقال إلى المنصات الرقمية مجرد تحوّل في وسائط التعبير، بل كان زلزالًا في علاقة الكاتب بنصّه، والقارئ بمحتواه، والمجتمع بمفهوم "الملكية" ذاته.

لم تعد مسألة "من يملك ماذا؟" مرتبطة بالعقار أو الفكر المجرد، بل أصبحت متشابكة بخيوط معقدة من خوارزميات، عقود استخدام خفية، وقوانين تتبدل كما يتبدل اتجاه الريح في الصحراء الكبرى. ففي زمن فيسبوك، تويتر، يوتيوب، وتيك توك، لم نعد نمتلك منشوراتنا، صورنا، وحتى تعليقاتنا، إلا بشروط يحددها الآخرون. ذلك الآخر غير المرئي، الذي يتمثل أحيانًا في شركة وادي السيليكون، وأحيانًا في حكومة تتسلل من خلف الستار باسم "تنظيم المحتوى".

لعلّ السؤال المفصلي الذي طرحه "شيراز غوش" في دراسته حول الخصوصية الرقمية (2019)، "هل بياناتنا هي نحن؟" يصلح أن نوسّعه إلى سؤال أعمق: هل المحتوى الذي ننتجه هو امتداد لكياننا الفردي، أم سلعة يتم تحويلها إلى رأس مال رمزي أو مادي في منظومة اقتصادية لا تأبه لصوت المبدع؟ ففي كل مرة أنشر فيها مقالاً تحليليًا أو خاطرة شخصية على منصة ما، تُفرض عليّ شروط استخدام طويلة ومعقدة، كثيرًا ما تتضمن بندًا صادمًا: "يحق للمنصة استخدام المحتوى بأي شكل تراه مناسبًا." ببساطة، أنا أتنازل دون وعي عن "روحي الرقمية".

تتذكر ذاكرتي المغربية هنا تجربة قانون الصحافة والنشر الذي أقرّه المغرب سنة 2016، والذي حاول تنظيم المجال الرقمي في سياق حرية التعبير وضبط المحتوى. غير أن القانون نفسه، رغم حسن النية، لم يجب على السؤال الأخطر: من يملك ما يُنشر رقميًا؟ وهل الدولة وحدها من يضع الإطار، أم أن الشركات العابرة للحدود أصبحت سلطة قائمة بحد ذاتها، لا تعترف بسيادة الدولة إلا إذا صادفت مصالحها؟

في كتابه  «The Age of Surveillance Capitalism»، "عصر الرقابة الرأسمالية" تحذّرنا شوشانا زوبوف  من أن المحتوى الذي ننشره، لا يُستخدم فقط لإنتاج الإعلانات، بل يُحوّل إلى مادة تحليلية لصياغة سلوكياتنا واختياراتنا المستقبلية. نحن لا نكتب فقط، بل نُسهم في تدريب الذكاء الاصطناعي، دون أن نحصل على مقابل. لا أتحدث هنا عن السرقة الأدبية أو التقليد، بل عن نوع جديد من التملك غير المرئي: المحتوى يُمتص، يُحوّل، يُعاد إنتاجه، دون أن يُذكر اسم صاحبه، تمامًا كما تمتص الرمال العطشى قطرة ماء وتُخفيها في جوفها إلى الأبد.

التحدي القانوني إذًا ليس مجرد حماية "الحقوق"، بل إعادة تعريف "الملكية" في بيئة لا تعترف بالحدود الجغرافية. فالمغربي الذي ينشر تدوينة عن تجربة شخصية، يجدها لاحقًا مضمّنة في فيديو على منصة أمريكية، أو موضوعًا لمقال تحليلي في صحيفة تصدر بلندن. أين تبدأ حقوقه؟ وأين تنتهي؟ وهل "حقوق المؤلف" التقليدية، كما وردت في اتفاقية بيرن أو قانون الملكية الفكرية المغربي (2000)، لا تزال قادرة على مواكبة هذا التسارع الجنوني؟

الجواب ليس سهلاً. لكنني، كمثقف مغربي، أدعو إلى تأسيس وعي جديد: وعي بمكانتنا كمُنتجين للمعرفة لا كمستهلكين لها فقط. وعي بأننا نمتلك الحق في التحكم في مصير ما نكتبه ونُبدعه، لا أن نُسلّمه طوعًا في صفقات غير متكافئة. هذا لا يعني الانغلاق عن الرقمية، بل يعني أن نفاوض بوعي، ونكتب بشروطنا، ونبني منصاتنا.

في النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا ومؤلمًا: هل أمتلك هذا المقال حقًا، وأنا أكتبه الآن على منصة قد تحتفظ به، تحلله، وتعيد توجيهه عبر خوارزمية لا أعرف عنها شيئًا؟

ربما تكون الإجابة الوحيدة الممكنة الآن، أن المقاومة تبدأ بالوعي، وأن الكلمة الحرة، حتى لو أصبحت "بيكسلًا" على شاشة، تبقى أحيانًا أقوى من السلاسل الرقمية.

0 التعليقات: