حين وطأت قدماي أرض السنغال، كنتُ أبحث عن ما هو أبعد من الشواطئ والأسواق والأساطير الإفريقية؛ كنت أبحث عن أثرٍ روحي عميق يشدني إلى جذور القارة، إلى أبعادها الروحية والثقافية. لذلك، لم يكن ممكناً أن أغادر داكار من دون أن أزور معلمًا يختزل في هندسته وتاريخه قصة إسلام إفريقي أصيل، أو مسجد الحسن الثاني معتدل، ومنفتح. وهكذا بدأت رحلتي إلى المسجد الكبير بدكار، الذي لم يكن مجرد بناء حجري مهيب، بل فضاء تفتحت فيه الحواس، وتجددت فيه الأسئلة، وانبعث فيه الصفاء من قلب الزحام.
عند الاقتراب من المسجد، تشدّك المئذنة الشامخة، التي ترتفع كالمنارة وسط المدينة. رأيتها من بعيد، وكأنها إصبع يشير نحو السماء، يذكر العابرين أن في هذه الأرض صوتًا للأذان، وأنّ الدين هنا ليس طارئًا بل جزء من التاريخ، بل من النسيج الاجتماعي والهوية الجماعية للسنغاليين. ولعل أجمل ما يدهشك في هذا المسجد، أنه بُني بطابع معماري إسلامي مغربي وأندلسي، مزجت فيه الزخارف التقليدية بلمسات محلية جعلته تحفة فنية ناطقة بالهوية الإفريقية المسلمة.
.ما شدّني أكثر من الجمال المعماري هو البعد التاريخي والثقافي لهذا المسجد. لقد افتتحه الرئيس السنغالي الراحل ليوبولد سيدار سنغور سنة 1964، وهو رئيس مسيحي في دولة أغلب سكانها مسلمون. كان ذلك تعبيراً عن نموذج فريد من التعايش والتسامح، وعن احترام عميق للدين الإسلامي الذي يشكل العمود الفقري للمجتمع السنغالي. وهذا ما يجعل المسجد الكبير ليس فقط معلمة دينية، بل رمزاً للوحدة الوطنية والوفاق بين الأديان.
غادرت المسجد وفي قلبي امتنان مزدوج: امتنان للمكان الذي أعاد لي لحظة روحانية صافية وسط ضجيج العالم، وامتنان للسنغال التي فهمت منذ استقلالها أن الدين لا يُستخدم وقودًا في النزاعات، بل أساسًا للمصالحة وبناء المشترك. وكم شعرت بالفخر عندما عرفت أن المغرب ساهم في دعم ترميم المسجد، مما زادني إحساسًا بأن الروابط بين الرباط وداكار ليست فقط دبلوماسية، بل حضارية وروحية كذلك.
كانت تلك الزيارة أكثر من مجرد لحظة سياحية، كانت رحلة في عمق الذات وفي قلب التاريخ الإفريقي المسلم. فالمساجد ليست مجرد حجارة وزخارف، إنها أماكن تحرس الذاكرة، وتوقظ الوجدان، وتعيد ترتيب الفوضى في داخلنا. ومن بين كل المساجد التي زرتها، يظل مسجد دكار الكبير منارة خاصة في ذاكرتي، شاهدة على أن الدين، حين يُفهم بروحه لا بحرفه، يصبح جسرًا بين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان وأخيه في الإنسانية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق