الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، يوليو 04، 2025

كتابة الواجهة: كيف تصبح الواجهة الرقمية نصاً قابلاً للتأويل والتفاعل: عبده حقي


في عصر أصبحت فيه الشاشات نوافذنا الوحيدة إلى العالم، لم يعد النص محصوراً في الحبر والورق، بل تحول إلى واجهة، والنص الرقمي لم يعد مجرد مضمون بل أصبح بنية، وسياقاً، ولغةً من نوع جديد. لم يعد النص يُقرأ فقط، بل يُتفاعل معه، يُنقر عليه، يُسحب، يُوسّع، ويُعيد إنتاجه المستخدم. إنها لحظة التحوّل من الكتابة كتمثيل إلى الكتابة كفعل، من النص كمرآة إلى النص كواجهة.

لقد قدّم الفيلسوف الكندي مارشال ماكلوهان في كتابه الشهير “The Medium is the Message” (الوسيط هو الرسالة) تصوراً جذرياً: إن الوسيط نفسه – لا المحتوى – هو الذي يصوغ تجربتنا الإدراكية والثقافية. وإذا ما طبقنا هذا المبدأ على النصوص الرقمية، يمكن القول إن واجهة المستخدم (User Interface) ليست مجرد وسيلة للوصول إلى النص، بل هي جزء لا يتجزأ من النص ذاته، أو بالأحرى، هي النص الذي يصوغه المستخدم أثناء تفاعله معه.

النص الرقمي إذن ليس نصاً مسطوراً وإنما فضاء تفاعلي، والمستخدم فيه ليس قارئاً سلبياً، بل فاعلاً منتجاً للمعنى. في كتابه “Writing Machines” تصف ن. كاثرين هايلز (N. Katherine Hayles) هذا التغير قائلة: "الكتابة الرقمية لا تكتب الكلمات فقط، بل تكتب الطريقة التي نتفاعل بها مع الكلمات." وبناءً عليه، تصبح "الواجهة" —بألوانها، أزرارها، بنيتها البصرية، ومدى تجاوبها مع المستخدم— عنصراً من عناصر إنتاج الدلالة، لا مجرد غلاف تقني.

الواجهة تفرض إيقاعاً معيناً على التلقي. فهي تحدد زمن القراءة، ومنطق الانتقال بين أجزاء النص، وطرق المقارنة والاستحضار والنسيان. وإذا كان النص التقليدي يُقرأ بخطٍّ أفقي من البداية إلى النهاية، فإن النص الرقمي يُستكشف كما تُستكشف مدينة جديدة: لا توجد بداية واحدة، ولا نهاية قَطعية. القارئ يتنقل بين عقد النص ووصَلاته التشعبية كما يتنقل في متاهة، والواجهة هي الخريطة التي تُخفي أكثر مما تُظهر.

ومن هنا تظهر أهمية دراسة النص الرقمي كواجهة، وليس فقط كخطاب. فالواجهة ليست محايدة، بل تنقل معها أيديولوجيا معينة، تملي أنماطاً من التفاعل وتقصي أخرى، تمنح بعض الخيارات وتُخفي أخرى. واجهات التواصل الاجتماعي، على سبيل المثال، تنظم علاقتنا بالنصوص والصور والمحتوى بطريقة تعكس مصالح الشركات التي صممتها. إن اختيارات التصميم – كزر "أعجبني" في فيسبوك أو "المشاركة" في تويتر – هي نصوص مستترة تعيد تشكيل علاقتنا بالمعنى.

وقد نبّه بول ليفينسون (Paul Levinson) في كتابه “Digital McLuhan” إلى أن تقنيات الوسائط الرقمية تفتح المجال لتجارب معرفية جديدة، لكنها أيضاً تفرض معايير قياسية موحدة على تنوع التجارب البشرية. وهذا يُظهر أن واجهة النص الرقمي ليست فقط وسيطاً جمالياً أو تقنياً، بل هي أيضاً وسيط سياسي وثقافي، تعكس توازنات القوة في العالم الرقمي.

في التجربة الأدبية المعاصرة، بدأ بعض الكتّاب باستثمار هذه الإمكانات بشكل واعٍ. نصوص الأدب الرقمي مثل رواية “Twelve Blue” لميشيل ديوترفيلد (Michael Joyce) أو أعمال جمعية "Electronic Literature Organization" تقدّم أمثلة على نصوص لا يمكن قراءتها دون الانخراط في واجهتها، حيث يصبح النص تجربة بصرية وسينمائية وموسيقية وتفاعلية في آن.

ولعلّ أخطر ما في النص كواجهة هو أنه يحوّل العلاقة مع النص من علاقة تأملية إلى علاقة أدائية. لم يعد النص يُفهم فقط بل يُؤدّى، كما يُؤدّى دور في مسرح تفاعلي. النص في الواجهة ليس كاملاً، بل يُكمل عبر التجربة، عبر "الاستخدام"، وهو بذلك يُسائل فكرة "المؤلف" و"النص المغلق" و"المعنى الثابت". الواجهة تُخلخل مركزية الكاتب، وتفتح المجال أمام "كتابة ما بعد المؤلف"، حيث يشارك المستخدم في تشكيل النص كما يشارك العازف في إخراج مقطوعة موسيقية من النوتات الصامتة.

إننا أمام زمن يُكتب فيه النص على واجهة تُقرأ وتُلمس وتُحرّك. النص لم يعد جسداً يُقرأ، بل أصبح بشرةً تُلمس. وبين اللمسة والنص، تولد المعاني الجديدة، وتتلاشى الحدود بين القارئ والكاتب، بين الرسالة ووسيطها، بين النص وواجهة النص.

وفي ظل هذا التحول، تطرح أسئلة جديدة: من يكتب النص فعلاً؟ هل يمكن الحديث عن "مؤلف رقمي"؟ ما دور المبرمج والمصمم والمستخدم في إنتاج المعنى؟ وهل يمكن أن نستمر في استخدام مفاهيم النقد الأدبي التقليدية لفهم هذه النصوص الجديدة؟

ما يبدو واضحاً أن الكتابة الرقمية تعيد تعريف فعل الكتابة ذاته. لقد انتقلنا من كتابة "الرسالة" إلى كتابة "الواجهة"، ومن النص كصوت داخلي إلى النص كمساحة مشتركة. وهذه الثورة الصامتة لا تحدث في محتوى النص فقط، بل في بنيته، وفي علاقتنا به، وفي الطريقة التي نرى بها العالم من خلاله. وكما أن المرآة تُشبهنا ولكن لا تُطابقنا، فإن النص الواجهاتي يُعيد تشكيلنا ونحن نظنه يُعبر عنا.


0 التعليقات: