الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، يوليو 05، 2025

الصحافة الرقمية وتحوّلات الخطاب الاقتصادي: من المعلومة إلى التأثير: عبده حقي


منذ بزوغ فجر الإنترنت وتحوّل الصحافة إلى الفضاء الرقمي، شهدت التغطية الاقتصادية تحوّلًا جذريًا في الشكل والمضمون. لقد أفرز هذا التحول واقعًا جديدًا ألغى الحدود التقليدية بين الصحفي والخبير، وبين القارئ والمتخصص، ليصبح الخطاب الاقتصادي ساحة مفتوحة تتنازعها مهنية المعلومة وسرعة الوصول، وشفافية البيانات وسطوة الخوارزميات. لم تعد الصحافة الاقتصادية الرقمية مجرّد وسيط ناقل للأرقام، بل صارت فاعلًا مشاركًا في تشكيل الرأي العام وصناعة القرارات المالية.

الصحافة الرقمية كسّرت احتكار النخب على المعلومة الاقتصادية. فبدل أن تظل التقارير الاقتصادية حبيسة التحاليل التقنية المتخصصة، أضحت متاحة لعامة القراء، تُقدّم عبر مقاطع فيديو تفاعلية، ورسوم بيانية ديناميكية، وتعليقات فورية على منصات التواصل. هذا الانفتاح، وإن بدا ديمقراطيًا في جوهره، يطرح تحديات جمّة تتعلق بالدقة والعمق والحياد، خاصة في عالم اقتصادي يسير بخطى متسارعة وتحيط به الضبابية والتقلبات.

المثال الأبرز على هذا التحول نجده في تغطية الأزمات الاقتصادية العالمية. لنأخذ أزمة التضخم بعد جائحة كورونا، فقد كانت الصحافة الرقمية من أولى المنابر التي نبّهت إلى تداعيات برامج التحفيز المالي الكبرى التي انتهجتها الحكومات الغربية. مواقع مثل «Bloomberg» و»The Financial Times Digital»  لجأت إلى أدوات تفاعلية لشرح مسارات الإنفاق، وتوقعات الركود، وتأثير أسعار الفائدة على الاقتصاد المنزلي. هذا الشكل من التغطية مكّن الجمهور غير المتخصص من فهم تعقيدات اقتصادية كانت في الماضي حكرًا على دوائر ضيّقة.

غير أن هذا التوسّع لم يخلُ من المخاطر. فكما يقول الباحث الفرنسي بيير بورديو في كتابه "التلفزيون وآليات التلاعب"، فإن هيمنة الصورة قد تهمّش التحليل العميق لصالح الإثارة البصرية. وينطبق هذا الأمر على الصحافة الاقتصادية الرقمية التي قد تميل أحيانًا إلى تضخيم الأزمات أو تبسيطها لتتناسب مع طبيعة النشر السريع وجذب النقرات، ما قد يؤدي إلى خلق هلع اقتصادي أو تضليل الجمهور.

المنصات الرقمية التي تمزج بين الخبر والتحليل والاستقصاء أفرزت كذلك نمطًا جديدًا من "صحفيي الاقتصاد المؤثّرين". بات بعض الصحفيين، مثل بول كروغمان في

«New York Times» أو تيم هارفورد في «BBC Digital», أشبه بمرجعيات فكرية يتابعهم القرّاء لاتخاذ قرارات مالية أو فهم توجهات السوق. هذه الشخصية الهجينة بين الصحفي والخبير تثير نقاشًا حول الحدود المهنية للصحافة، ومدى تأثير الرأي الشخصي على المعلومة الاقتصادية.

ولئن كانت الصحافة الورقية تعتمد غالبًا على نشر تقارير شهرية أو أسبوعية، فإن الصحافة الرقمية تتيح بثّ البيانات لحظة صدورها. هذا الزمن الفوري خلق علاقة جديدة بين الصحفي والحدث، بين القارئ والسوق. في حالات مثل انهيار

«Silicon Valley Bank»  سنة 2023، ساهمت تغطية وسائل الإعلام الرقمية في إشعال موجات من السحب الجماعي للودائع، ما جعل الحدث يتسارع بفعل الصحافة نفسها. هنا تبرز إشكالية "الفاعلية الإعلامية" في صناعة الأحداث الاقتصادية، وهي ظاهرة ما كان لها أن تتحقق بهذا الحجم في ظل الإعلام التقليدي.

التحوّل الرقمي أثّر كذلك في لغة الخطاب الاقتصادي. بات الصحفي ملزمًا بإنتاج محتوى سريع، سهل، موجز، وجاذب بصريًا. الجداول الرقمية صارت رسومات، والتحاليل النصية أضحت فيديوهات قصيرة على «YouTube Shorts» أو «TikTok». هذه الترجمة البصرية للمعلومة رفعت مستوى الاستهلاك، لكنها قلّلت في بعض الأحيان من جودة الفهم. يشبّه بعض الأكاديميين ذلك بـ"اقتصاد الانتباه"، حيث تتنافس الصحف على جذب القارئ بدل تثقيفه.

لكن لا يمكن إنكار أن هذا التحول الرقمي أتاح فرصًا ثمينة، لا سيما في الدول النامية. في المغرب مثلًا، بدأت منصات مستقلة مثل "الأيام الاقتصادية" و"هسبريس مال وأعمال" تقدم تحاليل اقتصادية بلغة عربية ميسّرة، ما ساهم في نشر الثقافة الاقتصادية لدى جمهور واسع. كما أن الرقمنة سهّلت الوصول إلى تقارير المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي، ما أتاح للصحفي المحلي أدوات جديدة للمساءلة والتحقيق.

لقد فتحت الصحافة الرقمية جبهة جديدة في معالجة الشأن الاقتصادي، لكنّها لم تُغلق بعد جراح السؤال الجوهري: هل نحن أمام إعلام ينقل الاقتصاد، أم إعلام يصنعه؟ الجواب لا يبدو بسيطًا، ولا مستقيمًا، لكنّه يتطلب من الصحفي المعاصر أن يجمع بين سرعة المعلومة وحكمة التحليل، وبين جاذبية الشكل وصرامة المضمون. فالاقتصاد في زمن الرقمنة لم يعد معادلة رقمية، بل خطابًا سياسيًا، اجتماعيًا، ووجوديًا، يُروى كما تُروى الأساطير، ويُقرأ كما تُقرأ القصائد... في زمن لا مكان فيه للحياد الصامت.

0 التعليقات: