في خطوة أثارت دهشة المراقبين واستهجان الاقتصاديين، أقدمت السلطات الجزائرية على اتخاذ قرار غير مسبوق في تاريخ الدول الحديثة: تشريع نشاط يُصنّف تقليديًا ضمن الاقتصاد غير المشروع، ألا وهو "التهريب الفردي" أو ما يُعرف محليًا بـ"تجارة الكابة". بموجب مرسوم تنفيذي صدر في 28 يونيو 2025 (رقم 25-170)، بات من حق الأفراد جلب سلع من الخارج وبيعها داخل الجزائر دون المرور عبر المساطر القانونية التقليدية للاستيراد. هكذا، تدخل الجزائر نادي الدول التي اختارت، طوعًا، تقنين ما يُفترض أن يُحارب قانونيًا.
ما كان يُعدّ حتى الأمس
القريب تهريبًا مُجرّمًا، أصبح اليوم يُمارَس تحت غطاء "الاستيراد الشخصي"
أو "الاستيراد الذاتي". يُخوّل هذا المرسوم للأفراد، دون شرط توفرهم على
سجل تجاري أو رخصة استيراد، أن يسافروا مرتين شهريًا إلى الخارج ويعودوا محملين ببضائع
لا تتجاوز قيمتها 12 ألف يورو في كل رحلة (أي 24 ألف يورو شهريًا)، بهدف إعادة بيعها
داخل البلاد كما هي.
لا يُشترط في هذا النشاط
أي نوع من الشروط التي تُفرض على الاستيراد المؤسساتي: لا حاجة لسجل تجاري، لا تفتيش
صارم، ولا التزام بالمعايير الصحية أو التقنية. وحده شرط الانتماء إلى صندوق الضمان
الاجتماعي للمستقلين، وفتح حساب بنكي بالعملة الصعبة، يكفي لإضفاء "الشرعية"
على هذا النشاط.
من يملك تصورًا اقتصاديًا
سليمًا يعلم أن السوق لا يمكن أن يُنظّم بتشجيع التهريب، بل بمكافحته. إن تشريع
"الكابة" يُعتبر ضربة قاصمة للتجار الشرعيين الذين يدفعون الضرائب، ويوفرون
فرص العمل، ويحترمون عقود التمثيل التجاري، ويخضعون لمراقبة الجودة والسلامة. هؤلاء
سيجدون أنفسهم فجأة في منافسة غير متكافئة مع أفراد يستوردون المنتجات بشكل غير منظم،
ويدفعون فقط رسومًا جمركية رمزية لا تتجاوز 5%، بينما يتحمل التاجر النظامي ما يصل
إلى 60% في بعض الأحيان.
الأسوأ من ذلك أن هذا
النظام الجديد يفتح الباب أمام دخول سلع لا تتوفر على أدنى معايير السلامة، خصوصًا
المواد الغذائية ومستحضرات التجميل، وحتى الأدوية. فكيف ستتم مراقبة آلاف الأشخاص العائدين
من رحلات تسوق بالخارج؟ وهل تملك الجمارك الجزائرية أدوات وتقنيات فحص فوري وفعال للسلع
المحمولة داخل الحقائب؟ هل من الممكن التحقق من أصالة المنتجات أو مدة صلاحيتها أو
مطابقتها للمعايير الصحية؟ عمليًا، يبدو هذا مستحيلاً، مما يجعل صحة المواطن الجزائري
رهينة عشوائية البضائع المهربة.
إن مناخ الأعمال في
الجزائر، المتدهور أصلًا، سيتلقى ضربة إضافية. كيف يمكن إقناع شركة عالمية مثل "Nike" أو "Apple" أو "Zara" بالاستثمار في بلد يسمح لأشخاص غير مسجلين
قانونيًا باستيراد وبيع منتجات هذه الشركات بأسعار غير خاضعة للضوابط؟ ولماذا تُنشئ
هذه الشركات فروعا أو متاجر رسمية وتدفع ضرائبها وتستثمر في بلد تشرعن فيه الدولة المنافسة
غير المشروعة؟
هذه الوضعية لن تضر
فقط بفرص جذب الاستثمارات الأجنبية، بل ستمتد لتقضي على مشاريع وطنية كبرى في قطاعات
التجارة والتوزيع، وتحكم على الكثير من المشاريع الصغيرة بالفشل، مما يُعمّق أزمة البطالة
ويُضعف النمو الاقتصادي.
ولأن نشاط "الاستيراد
الذاتي" يشترط امتلاك حساب بالعملة الصعبة، فإن السوق السوداء للعملات ستنتعش
بشكل غير مسبوق. من لا يستطيع الاستفادة من هذا النشاط لن يجد اليورو أو الدولار بسهولة،
خصوصًا في ظل غياب سوق رسمي حرّ للصرف، مما سيُفاقم من أزمة سعر الدينار ويزيد من معاناة
المواطنين العاديين الراغبين في السفر أو العلاج بالخارج.
هذا القرار لا يمكن
وصفه إلا بكونه محاولة يائسة لشراء السلم الاجتماعي عبر استرضاء فئة من الشباب العاطلين
عن العمل، دون أي رؤية تنموية أو إستراتيجية صناعية. ما تفعله الجزائر اليوم هو تقنين
للفوضى الاقتصادية تحت مسمى "الابتكار المحلي"، وتحويل البلد إلى "بازار
ضخم"، حيث يُباع كل شيء دون رقابة، ويُشترى كل شيء دون ضمان.
إن مكافحة التهريب
لا تكون بإعادة تسميته أو منح ممارسيه صفة "المستوردين الصغار"، بل بوضع
سياسات تشغيل فعلية، وتشجيع الإنتاج المحلي، وتبسيط مساطر الاستيراد الشرعي، والرقابة
الصارمة على الأسواق. أما ما يحدث اليوم، فلا يعدو كونه إخفاقًا سياسيًا واقتصاديًا،
وتخليًا مخجلاً عن أبسط قواعد الحوكمة الرشيدة.
ما سُمي بـ"مرسوم
الكابة" ليس سوى مظهر من مظاهر عجز الدولة عن خلق فرص اقتصادية حقيقية، وإشارة
خطيرة إلى غياب رؤية اقتصادية مؤسساتية. ففي زمن تسعى فيه الدول إلى محاربة التهريب،
قررت الجزائر أن تحتضنه كسياسة رسمية. والنتيجة؟ اقتصاد في مهب الريح، وصحة المواطن
في خطر، وثقة المستثمر على المحك.
0 التعليقات:
إرسال تعليق