الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، يوليو 08، 2025

يوميات السينغال : تأملات على صفحة بحيرة "لاك روز" : عبده حقي


ما إن وطئت قدماي تراب داكار، حتى شعرت بأنني مقبل على تجربة غير مألوفة، كأنّني دخلت عالماً آخر يستيقظ فيه الجمال من نومه اليوميّ ليصهل تحت شمس إفريقية لا تعرف الخجل. كنت قد سمعت عن "البحيرة الوردية"، أو كما يسميها البعض Lac Rose، لكن شيئاً في داخلي كان يقول لي إن الواقع قد يتجاوز كل الصور والكلمات.

في صباح دافئ، أقلّتني سيارة من وسط العاصمة نحو الشمال الشرقي، وبينما كانت الأشجار الاستوائية تتمايل على جانبي الطريق، كنت أتساءل: كيف يمكن لبحيرة أن تتلون بالورديّ؟ هل هو سحر الطبيعة أم خدعة الضوء؟ وبعد نحو ساعة، لم تعد الإجابة تهمّني. فقد ظهرت البحيرة أمامي كعروس خجولة تستحم في ضوء الفجر.
لونها لم يكن وهماً. كان وردياً حقاً، بل بدا لي أحياناً وكأنه مزيج من الزعفران والورود المجففة وماء الورد المقطر. علمت لاحقاً أن السبب يعود إلى نوع من الطحالب الدقيقة التي تنتج صبغة حمراء لتقاوم تركيز الملح المرتفع، ما يمنح البحيرة لونها المتغيّر حسب ضوء الشمس وزاوية النظر.
اقتربت أكثر، ففوجئت بالقوارب الصغيرة المصطفة على الضفة، كأنها تنتظر عشّاقها. لم أتمالك نفسي. استأجرت زورقاً خشبياً تقليدياً، وقفزت إليه بشوق الصبيان. كان هناك بحّار سنغالي باسم "بوبكر"، وجهه مغطى بابتسامة أبدية، أخذ يجدّف بي وسط البحيرة وهو يروي لي قصصاً عن الرجال الذين يجمعون الملح من القاع، وعن النساء اللواتي يحمين أزواجهن بدهن الكاريتي لكي لا تتشقق جلودهم في ملوحة الماء.
الماء لم يكن عميقاً. كان الزورق ينساب بخفّة، والنسائم تتلاعب بقميصي وقلبي ينبض كما لو أنني أكتشف البحر لأول مرة. كانت هناك طيور بيضاء تحلق فوق رؤوسنا، بعضها ينقضّ على صفحة الماء كأنها تبحث عن قصيدة ضائعة في الملح.
شيء ما في البحيرة يجعل الزائر ينسى ضجيج العالم. إنها ليست فقط بحيرة، بل مرآة للعزلة النقية، مساحة من التأمل، درس في أن الجمال لا يحتاج إلى تعقيد. جلست في الزورق أتأمل الأفق، حيث يندمج اللون الوردي بزرقة السماء، ويتحوّل الكون إلى لوحة انطباعية لا يقدر عليها إلا الرسّام الأعظم: الطبيعة.
بعد جولة هادئة وسط الأمواج الوردية، عدت إلى اليابسة وفي داخلي خدرٌ جميل. تناولت وجبة محلية من السمك المشوي مع الكسكس، وجلست أراقب الغروب وهو يمدّ لسانه الأحمر على صفحة البحيرة، كما لو أنه يودّعها بشغف عاشق.
الزورق، البحيرة، طحالبها، ملحها، بوبكر، وأغنية البحّارة التي ظلّت تتردد في أذني... كلها تفاصيل ستبقى محفورة في ذاكرتي. لم تكن مجرد رحلة سياحية، بل كانت تجربة روح، رحلة نحو الأعماق التي لا تُقاس بالأمتار بل بالدهشة.
نعم، هناك في قلب السنغال، حيث الورديّ يصير وطناً، عرفت أن الطبيعة لا تهمس لنا فقط بالجمال، بل تعلمنا كيف نصغي.

0 التعليقات: