الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، يوليو 04، 2025

يوميات السينغال : في حضرة الرئيس الشاعر سيدا سينغور:عبده حقي

 


كأنني دخلتُ الزمن من أحد نوافذه المهملة، وأنا أعبر عتبة بيت الرئيس والشاعر ليوبولد سيدا سينغور في داكار. لم أكن أبحث عن التاريخ بقدر ما كنت أبحث عن الإنسان الذي ظل لسنواتٍ يُكتب عنه كما تُكتب الأناشيد، وكما تُرمى الظلال في وضح القصيدة. دخلت بيته وأنا أحمل في داخلي تواضع الزائر، وفضول الكاتب، ودهشة الطفل الذي يقتحم غرفة أبيه لأول مرة دون استئذان.

كان التمثال البرونزي لسينغور في منتصف المدارة القريبة من البيت يحدّق في الأفق كما لو أنه ما زال ينتظر زائراً قادماً من ضفاف المتوسط. يقف هناك، شامخاً مثل سؤال الهوية، بهندامه الأنيق ونظرته الصارمة اللينة، وكأنه لم يمت قط، بل اختار أن يتحول إلى حارس شعريّ للمدينة، وإلى ضمير يراقب تحولات الوطن من بعد.
حين دخلت البيت، خُيّل إليّ أنني لا أزور مكاناً بل فكرة. فالبيت، وإن بدت ملامحه بسيطة، يفيض بالشعر والسياسة، ويقطر بحنينٍ لا يعرف أن يتقاعد. الجدران مكسوّة بصور كثيرة، بعضها هو يُصافح رؤساء دول، وأخرى له وهو يقرأ قصيدة . هناك أيضاً صورٌ له مع زوجته الفرنسية كوليت، السيدة التي أحبها بصدقٍ خجول، والتي كانت جزءاً من قصائده كما كانت جزءاً من جمهوريته.
سرت في البيت كما يسير المرء في حقل ألغامٍ عاطفية. شعرتُ أنني لا أملك الحق الكامل في التلصص، لكنني كنت مأخوذاً بهذا الثراء البسيط. زرت غرفة النوم. لم تكن فخمة، بل متواضعة ليس بمقاييس رؤساء اليوم. على الطاولة الصغيرة، وُضعت زجاجة عطر نصف ممتلئة، ساعةٌ توقفت عقاربها عن العمل، ومصحف صغير بالفرنسية. وعلى رفّ الحمام، وجدت ما لم أكن أتوقعه أبداً.
فرشاة أسنان كوليت، ما زالت هناك، واقفة كجندي لم تُرفع عنه الخدمة. مشط شعرها، الخشبي والعتيق، يحمل خصلاتٍ رقيقة من شعرها الأشقر. تأملت تلك الخصلات طويلاً، كمن ينظر إلى أثر حبٍّ قديم لا يعرف صاحبه، وتساءلت: كم مرة مرّ هذا المشط على رأسها وهي تسمع زوجها يقرأ قصيدة جديدة؟ هل كانت تبتسم حين يخطئ الوزن؟ هل كانت تغار من مفرداته، أم تعشقه أكثر حين يصير في حضرة الشعر لا في حضرة السلطة؟
في مكتبه، جلستُ على كرسيه الخاص. لم أفعلها بكبرياء، بل بارتباك. شعرت أنني أتطفل على لحظة كانت ملكه وحده. المكتب الخشبي كان أنيقاً، ومنظماً كما لو أن صاحبه خرج لتوه وسيعود بعد دقائق. فوقه، رُصّت دفاتر وكتب وملفات كثيرة، بعضها مفتوح على صفحات كتبت بخطٍّ صغيرٍ ومنظم، يختلط فيه الحبر الأزرق بوشم الإلهام. في إحدى الزوايا، كانت هناك رزمة أوراق صفراء، تحمل بصمات أصابعه، وملاحظات بالفرنسية عن “الزنوجة” و”الكونية” و”الهوية الإفريقية”.
هناك أيضاً قلم حبرٍ أسود، من النوع الذي لا يُباع في المكتبات العامة، يرقد بهدوء على حافة الطاولة، كأنه سلاح استُخدم لكتابة دستور، أو لبناء مجاز. وحين مددت يدي إليه، شعرت برعشةٍ غير مفهومة. ربما لأنها المرة الأولى التي أُلامس فيها أداة كتب بها شاعرٌ قرارات سياسية، وشاعرٌ كتب بها سياسيّ قصائده.
أُضيئت الذاكرة كلها في داخلي. تذكرتُ كيف كنا، نحن المغاربة، نحترم سينغور لا كرئيس، بل كمثقف صار دولة. كان بالنسبة إلينا نموذجاً مقلقاً لرجلٍ جمع بين سلطة اللغة وسلطة القرار. لم يَبع الشعر حين تولّى الحكم، ولم يتخلَّ عن الوطن حين طوّقه الحنين. كان أول رئيس إفريقي يدخل الأكاديمية الفرنسية، ليس لأن فرنسا أرادت تكريمه، بل لأنه أجبرها، بلغته، أن تعترف به.
وقفتُ قرب نافذته المطلة على الحديقة الخلفية. الأشجار ما زالت في أماكنها، والعصافير ما زالت تغنّي للفراغ. في لحظة صمتٍ غامضة، شعرت أن البيت كلّه يتنفس. البيانو في الزاوية بدا وكأنه يستعد لعزف نشيدٍ وطنيٍّ جديد. وفوق الجدار، كان هناك إطار صغير لكلماتٍ شعريةٍ مؤطرة:
"L’émotion est nègre, la raison est hellène.
العبارة التي اختصر بها سينغور فلسفة إفريقيا، وجعلها تكتب ذاتها، لا بوصفها تابعةً للغرب، بل بوصفها منبعاً للإحساس.
خرجت من بيته وأنا أجرّ في داخلي الكثير من الندم والكثير من الفخر. ندمت لأني لم أقرأه أكثر في شبابي، ولأني لم أكن أعلم أن الشعر يمكن أن يُمارَس حتى من على كرسيّ الرئاسة. وفخورٌ لأني جئت من بلدٍ يُشبه بلده، في التاريخ، وفي الألم، وفي الحلم. نحن، المغاربة والسنغاليون، أبناء ممالك الشعر، وورثة دولٍ كُتبت على نَسَق القصائد.
ليوبولد سيدا سينغور لم يمت. هو فقط غادر غرف البيت، وترك لنا تفاصيله الصغيرة لنُكمل القصيدة. كلّ ما فيه ما زال كما هو: شعر زوجته في المشط، توقيعه على الأوراق، ابتسامته في الصور، تمثاله في المدارة... وبيتُه، المفتوحُ على البحر وعلى القلوب، ما زال ينتظر كاتباً آخر، وقصيدةً أخرى، وربما جمهوريةً لا تخجل من أن تُحكم بالشعر.
يعز علي أن أعبر عن احاسيسي وانا أتقمص شخصية سينغور على مكتبه كشاعر لكن لا أطمح أن أتقمصها كرئيس .

0 التعليقات: