الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، يوليو 28، 2025

الجزائر في متاهة قبضة سلطة العسكر: عبده حقي


تعيش الجزائر اليوم مرحلة غير مسبوقة من الارتباك السياسي والتصدعات المؤسساتية، تظهر ملامحها بجلاء في سلسلة متلاحقة من القرارات الاقتصادية العشوائية، وفضائح دبلوماسية محرجة، وتدخلات أمنية تنسج خيوط السلطة من وراء الستار. فمن وزارة التجارة إلى السفارات، ومن تقلبات الدينار إلى الملفات السرية القادمة من أليكانتي، تتكشف صورة نظام يتآكل من الداخل، حيث تُنتزع الصلاحيات من المسؤولين المدنيين لصالح أجهزة عسكرية وأمنية باتت تتحكم في الدولة العميقة.

في قلب هذا المشهد، تبرز الإجراءات الجديدة التي اتخذها وزير التجارة كمال رزيق بشأن الواردات، والتي وُصفت من داخل الأوساط الاقتصادية الجزائرية نفسها بـ"الجنونية". قرارات ارتجالية تقوّض ما تبقى من استقرار اقتصادي، وتربك المستثمرين المحليين والدوليين، وتكشف غياب رؤية اقتصادية حقيقية لدى السلطة. بدلًا من دعم النسيج الإنتاجي المحلي أو جذب استثمارات تنموية، تُغلق الأبواب أمام الفاعلين الاقتصاديين بحجج بيروقراطية وتعسفية، مما يكرّس العزلة المالية ويعمّق الركود.

ولم تسلم الدبلوماسية الجزائرية بدورها من العبث ذاته، حيث هزّت سلسلة فضائح متلاحقة أروقة السفارة الجزائرية في دبلن. هناك تقارير إعلامية متعددة كشفت عن سوء إدارة واتهامات بالتحرش وسوء استعمال السلطة، ما يعكس ليس فقط انهيار صورة الجزائر في الخارج، بل أيضًا تفكك الجسم الدبلوماسي وانفلاته من الرقابة المركزية. سفارات أصبحت أحيانًا ملاذًا لتصفية الحسابات الداخلية أو امتدادًا لصراعات الأجهزة.

وفي الوقت الذي حاولت فيه السلطات تسويق تحسن سعر صرف الدينار مقابل الأورو على أنه "نصر اقتصادي"، فضحت الحقائق التقنية والمالية هشاشة هذا الادعاء. إذ يرى خبراء أن هذا "التحسن" ليس سوى نتاج إجراءات ظرفية وموجهة من البنك المركزي، ولا يعكس تحسنًا حقيقيًا في القوة الشرائية أو في مؤشرات الاقتصاد الكلي. بل إن هذا الارتفاع المصطنع يُعد بمثابة "فخ" للمواطنين والمستثمرين على السواء، إذ قد يؤدي لاحقًا إلى انهيارات مفاجئة في السوق ويزيد من فجوة الثقة في النظام المالي.

أما على الجبهة الأمنية، فإن قضيتي "بوعلام بوعلام" و"التحقيق السري بين أليكانتي والجزائر" تسلطان الضوء على التداخل الخطير بين القضاء، والمخابرات، والمؤسسة العسكرية. الأولى تكشف عن محاولة السلطة طمس معالم تحقيق حساس حول الفساد أو ربما "فبركته" لإسكات أصوات مزعجة. أما الثانية فترسم خريطة معقدة لتصفيات سياسية تجري خلف الكواليس، حيث تظهر أسماء ثقيلة مثل خالد نزار والراحل أحمد قايد صالح في سياق مشبوه. أسئلة كثيرة تثار حول التلاعب بالأدلة، والإخفاء المتعمد لوثائق حساسة، واستغلال القضاء كأداة للابتزاز أو التغطية.

وفي ذروة هذا العبث، تطفو على السطح حقيقة صادمة: الوزراء في الجزائر فقدوا فعليًا صلاحيات التعيين أو الإقالة داخل وزاراتهم. وهو ما يؤكد مرة أخرى هيمنة الأجهزة الأمنية والعسكرية على مفاصل الدولة، وتحويل الوزراء إلى مجرد واجهات تنفيذية، محرومين من أدنى درجات الاستقلال الوظيفي. هذه الوضعية تُكرّس منطق الدولة العميقة، وتعزز قبضة غير مرئية لكنها نافذة على القرار السياسي والإداري، في قطيعة تامة مع مبدأ الحكم المدني.

كل هذه المؤشرات لا تمثل وقائع معزولة، بل تتكامل لتكشف عن أزمة بنيوية تُهدد مستقبل الجزائر، حيث تُقاد البلاد بمنطق "رد الفعل" لا "المبادرة"، وحيث تُدار المؤسسات بحسابات داخلية غامضة لا بخطط وطنية شفافة. إنها لحظة حرجة تستوجب من الشعب الجزائري وكل القوى الحية أن تقف وقفة تأمل ونقد، أمام سلطة تتآكل شرعيتها وتضيع بوصلتها، في ظل عالم لا يرحم الدول التي تعجز عن إصلاح ذاتها من الداخل.

0 التعليقات: