الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، يوليو 07، 2025

"بين الحرب والحقيقة الزائفة والمعركة ضد التضليل الرقمي؟ ترجمة عبده حقي


مما لاشك فيه لم تعد ساحات المعارك تقتصر على الأرض والجو، بل امتدت لتشمل الفضاء الرقمي، حيث تتلاقى الحقيقة والخداع في لحظة واحدة. بعد الضربات الأمريكية على مواقع نووية إيرانية في 21 يونيو 2025، لم تكن الصواريخ وحدها ما اخترق الأجواء، بل انطلقت موجة جارفة من الصور والمقاطع المفبركة على وسائل التواصل، أحدثت زوبعة من الارتباك والذعر، في وقت كان العالم فيه بحاجة ماسّة إلى الوضوح.

منصات مثل "إكس" (تويتر سابقًا) امتلأت بمقاطع فيديو لانفجارات وزخّات نيران واحتجاجات وصور صواريخ ومروحيات، بدت للوهلة الأولى كأنها من قلب الحدث. لكن الحقيقة كانت بعيدة عن ذلك. كثير من هذه المواد إمّا صُمّمت باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي، أو اقتُطعت من ألعاب فيديو، أو أُخرجت من سياقها الجغرافي والزمني.

في أحد الفيديوهات، ظهرت صاعقة تضرب عمودًا من الدخان، تبعتها انفجارات مهيبة. الحساب الذي نشره – ويحمل علامة زرقاء - صرخ: "هذا دليل على أن الانفجار كان نوويًا!". غير أن مقطع الفيديو هذا نُشر قبل الحادثة بيومين على يوتيوب، مرفقًا بتوضيح أنه مُنتج باستخدام الذكاء الاصطناعي. إن النموذج الشائع لتوليد هذه المقاطع، مثل

"Veo 3"  من غوغل، يُنتج فيديوهات قصيرة لا تتجاوز ثماني ثوانٍ، وغالبًا ما تظهر فيها عيوب بصرية واضحة: أعلام مشوّهة، خطوط طريق غير متناسقة، شاحنات تطفو في الهواء.

لكن الأمر لم يتوقف عند حدود الذكاء الاصطناعي. بل استُخدمت لقطات من ألعاب مثل "Microsoft Flight Simulator" و"Arma"  لتصوير مشاهد زائفة وكأنها وقائع عسكرية حقيقية. إحدى هذه اللقطات قيل إنها تُظهر قاذفة القنابل الشبح B2 تقلع من كاليفورنيا، بينما هي في الواقع مشهد مأخوذ من لعبة فيديو متاحة على إكس بوكس.

المفارقة أن العديد من الحسابات التي نشرت هذه المواد تحمل علامات تحقق زرقاء، مما يُضفي – ظاهريًا – مصداقية مضلِّلة. فالنظام الجديد لمنصة "إكس" أتاح شراء هذه العلامة لأي مستخدم، ما أدى إلى اختلاط الحسابات الحقيقية بالوهمية. عدد من هذه الحسابات استخدم أسماءً توحي بأنها إيرانية رسمية، مثل "تعليقات إيران" أو "رد إيران"، لكنها في الواقع لا تنتمي لأي جهة موثوقة.

 

وهنا تبرز مسؤولية المستخدم. فالتمييز بين المحتوى الحقيقي والمفبرك أصبح ضرورة رقمية. أدوات بسيطة مثل Google Lens أو TinEye تسمح بإجراء بحث عكسي عن الصور لتحديد تاريخ نشرها الأول وسياقها الأصلي. غالبًا ما يكون هذا كافيًا لكشف التزييف. كما أن تدقيق التعليقات التوضيحية، ومراجعة هوية صاحب الحساب، وتحليل محتوى السيرة الذاتية، قد يُسقط القناع عن الكثير من الخدع البصرية.

ليست هذه المرة الأولى التي يُستعمل فيها التضليل البصري في سياق سياسي أو عسكري. لكن حجم التزييف وكثافته وتنسيقه يشير إلى دخول الذكاء الاصطناعي كفاعل جديد في صناعة الحروب الإعلامية. إيمانويل صليبا، المتخصصة في التحقيقات الرقمية في

"Get Real Labs"، تؤكد أن هذه الحرب شهدت أول استخدام واسع للذكاء الاصطناعي المُولّد لتضليل الرأي العام في نزاع عسكري.

المسألة ليست مجرد صور وأشرطة فيديو، بل هي معركة على الوعي، وسباق بين الحقيقة والخداع. ففي كل مرة يُنشر فيها فيديو مزيف أو صورة خارجة عن سياقها، يتم تحوير الإدراك الجماعي، وتُشوَّه وقائع يُفترض أن تُروى بأمانة. والحل لا يكمن فقط في تطوير تقنيات الكشف، بل في ترسيخ ثقافة رقمية ناقدة.

في زمن تسقط فيه القنابل وتُلقى فيه الأكاذيب من السماء الرقمية، تصبح الحقيقة نفسها هدفًا في مرمى النيران. فهل نحن مستعدون لحمايتها؟

0 التعليقات: