لا أستطيع أن أمرّ مرور الكرام على الرسالة التي وجّهتها جمعية مدنية إلى رئيس الحكومة المغربية، تطالبه فيها بإطلاق أسماء شخصيات يهودية على أحد شوارع مدينة أكادير. لم تكن الرسالة مجرد اقتراح إداري لتسمية حي أو ممر، بل كانت شحنة رمزية عالية التوتر، كشفت عمق الأسئلة المعلقة حول الهوية، الذاكرة، والتاريخ المتعدد الذي تحمله هذه المدينة التي نهضت من تحت أنقاض زلزال 1960.
أنا لا أرى في الرسالة
فعلاً إدارياً محضاً، بل أقرأها كوثيقة سياسية وإنسانية. فهي، وإن تغلّفت بلبوس الاقتراح
المدني، إلا أنها تنبش في تربة المغرب المتعددة: مغرب الأمازيغ، والعرب، والمسلمين،
واليهود. مغرب كان ولم يزل يحمل في ذاكرته أسماء يهود تركوا بصمتهم في التجارة، والثقافة،
والحياة اليومية. فلماذا نرتبك حين يُقترح أن نمنح هؤلاء اسماً في شارع؟
لقد جاءت الرسالة في
لحظة دقيقة، حيث يتصاعد الجدل الوطني حول العلاقة مع إسرائيل، ومع يهود العالم عموماً.
هناك من يعتبر أن هذا النوع من المبادرات يندرج في إطار "التطبيع الرمزي"،
حتى لو تعلق الأمر بيهود مغاربة عاشوا وماتوا في المغرب، وكانت لهم مساهمات مشهودة
في نسيجنا الوطني. وهناك، في المقابل، من يرى أن استدعاء هؤلاء في الفضاء العام هو
فعل إنصاف ومصالحة مع ذاكرة ظلّت مُقصاة لعقود، إما لأسباب سياسية أو لمجرد النسيان
الممنهج.
أنا، شخصياً، أجدني
أقف في منتصف هذا الجدل. لا أتبنى خطاب التخوين ولا أطمئن بالكامل لخطاب الإنصاف الرمزي
إن لم يُرفق بنقاش مجتمعي شفاف. ذلك أن استدعاء أسماء يهود مغاربة لتزيين شوارع أكادير
ليس مجرد تكريم، بل فعلٌ سياسي بامتياز. إنه يعيد طرح سؤال من يحق له أن يُخلَّد في
الفضاء العام؟ وهل ذاكرة اليهود المغاربة جزء من التاريخ المغربي الحيّ، أم أنها مجرد
فصل منسي لا يُستدعى إلا حين تقتضي الضرورات الدبلوماسية أو "صورة الانفتاح"
أمام الخارج؟
أكادير ليست مدينة
عادية في هذا السياق. فبعد زلزال 1960، أعيد بناؤها على أنقاض المأساة، لكنها لم تستعد
أبداً كامل تنوعها القديم. كثير من يهودها غادروها مع موجات الهجرة إلى إسرائيل وأوروبا.
لكن أسماءهم ما زالت تتردد في ذاكرة من تبقّى، في حكايات المسنين، وفي الأسماء المحفورة
على أبواب قديمة، وفي السوق البلدي، وفي طريقة نطق بعض الكلمات الأمازيغية المختلطة
بالعبرية.
هل يعني هذا أننا يجب
أن نُخلّد كل اسم كان في أكادير فقط لأنه يهودي؟ بالتأكيد لا. لكن، إن كانت هناك شخصيات
يهودية مغربية تركت أثراً في تنمية المدينة أو في تاريخها الثقافي، فهل من العدل أن
تُقصى فقط بسبب انتمائها الديني؟ هذه الأسئلة لا تهم يهود المغرب فقط، بل تهمنا جميعاً
كمغاربة، نحتاج إلى إعادة كتابة سرديتنا الوطنية على أساس التنوع والعدالة التاريخية،
لا على أساس الهوية الأحادية.
ما يخيفني في بعض ردود
الأفعال هو النزعة نحو التبسيط الأيديولوجي. هناك من يصوّر المبادرة وكأنها "صفقة
سياسية" هدفها التمهيد لقبول التطبيع، متناسين أن يهود المغرب هم جزء من النسيج
الوطني منذ قرون، وأنهم كانوا يعيشون معنا في المدن والقرى قبل أن يولد خطاب
"الرفض والممانعة". وهناك، بالمقابل، من يحاول أن يجعل من المبادرة مناسبة
لـ"تبييض" كل الممارسات السياسية باسم التعايش، وكأن مجرد إطلاق اسم يهودي
على شارع هو دليل على انفتاح الدولة على كل مكوناتها.
إنّ تتبّع سِيَر أعلام
اليهود المغاربة عبر القرون يكشف عن واقع متجذر لا يمكن إنكاره، يتمثل في مساهماتهم
العميقة والمتنوعة في بناء الدولة المغربية، سواء في أزمنتها السلطانية أو في عصرها
الحديث. هذا الحضور التاريخي، الذي يتراوح بين مواقع النفوذ السياسي والدبلوماسي وبين
الريادة العلمية والفقهية والفنية، يُطرح اليوم كسؤال مركزي في قلب النقاش حول الهوية
الوطنية، وتمثيلها في الفضاء الرمزي، بدءًا من أسماء الشوارع إلى مناهج التعليم.
لقد عرفت فاس، ومكناس،
وسلا، والصويرة، وغيرُها من المدن المغربية، أسماء يهودية طبعت الذاكرة الوطنية. فـ
موسى بن ميمون، الطبيب والفيلسوف، الذي درس بجامعة القرويين، لم يكن مجرد شخصية دينية،
بل كان رمزًا لانفتاح العقل المغربي في زمن التعصب الديني، بينما برز يهودا بن داويد
حيوج كفاعل لغوي ساهم في تجديد النحو العبري باستلهام قواعد اللغة العربية، في ما يشبه
حوارًا حضاريًا حيًّا.
سياسيًا، مثّل بعض
اليهود عناصر فاعلة في البلاط، مثل هارون بن بطاش، الذي تحوّل حضوره من رمز للنفوذ
إلى شرارة لثورة شعبية، كاشفًا عن هشاشة العلاقة بين الأقليات والسلطة حين تغيب الحكامة،
وهي سُنة لا تخص دينًا أو قومية بعينها. في المقابل، شكّل صموئيل ويوسف بلياش نموذجًا
للدبلوماسي اليهودي الذي توسط بين المغرب وأوروبا في لحظة توازنات دقيقة، وإن لم تخلُ
تجربتهما من شبهات المراوغة والمصلحة الشخصية.
أما في العصر الحديث،
فقد عكست شخصيات مثل أبراهام السرفاتي وليون بنزاكين تحولات الهوية اليهودية المغربية.
الأول واجه الاستبداد من موقع يساري جذري ورفض الصهيونية علنًا، والثاني انخرط في بناء
الدولة المغربية المستقلة من موقع وزاري، وبتكليف مباشر من محمد الخامس، تأكيدًا على
لحظة وطنية جامعة لا تستثني أبناء الوطن بناءً على ديانتهم.
ولم يكن الحضور اليهودي
مقتصرًا على السياسة والدين، بل امتد إلى الموسيقى والفن، حيث برزت أسماء مثل سامي
المغربي، داوود بوزاكلو، ريموند البيضاوية، وزهرة الفاسية، ممن ساهموا في ترسيخ الهوية
الموسيقية المغربية كهوية جامعة للذاكرة الإسلامية واليهودية.
اليوم، ومع تزايد النقاش
حول الهوية الوطنية، لا يمكن تجاهل هذه الشخصيات التي اختارت، في كثير من الأحيان،
أن تظل مغربية رغم إغراءات الاغتراب، أو اختارت أن تعود إلى المغرب بعد سنوات المنفى.
فاستحضار أسمائهم في فضاءاتنا العامة، من الشوارع إلى المدارس، ليس من باب المجاملة
الرمزية، بل من باب استكمال المصالحة مع الذات الوطنية، وتصحيح سردية الإقصاء التي
سادت لعقود.
إن إدماج أعلام اليهود
المغاربة في المشهد الرمزي هو إعادة تعريف لفكرة "الوطنية" ذاتها، كفضاء
تعددي يشمل الجميع، دون اختزال أو تبسيط. فهل نحن مستعدون اليوم، سياسيًا وثقافيًا،
لأن نفتح هذه الذاكرة ونعيد الاعتبار لمن كانوا جزءًا من نسيجنا دون أن يكونوا في مركز
روايتنا الوطنية؟
أنا أطالب، كمواطن
مغربي، بأن يُفتح نقاش حقيقي حول ذاكرة اليهود في المغرب، لا كمجرد فصل في كتب التاريخ،
بل كمكون حي في تشكيل هويتنا الجماعية. وأن تُربط أي مبادرة لتخليد الأسماء اليهودية
أو غيرها في الفضاء العام بمعايير واضحة: ما أثر هذه الشخصية؟ ماذا قدمت للمدينة أو
للبلد؟ وهل تمّت استشارة سكان الحي؟ وهل هناك توازن في تمثيل مختلف المكونات المغربية
في التسميات الرمزية؟
نعم، نحن بحاجة إلى
مصالحة تاريخية مع ذواتنا، لكننا أيضاً بحاجة إلى عدالة رمزية لا تستثني أحداً ولا
تُوظف في أجندات آنية. لا يجب أن تكون أسماء الشوارع ساحة معركة بين "أنصار التطبيع"
و"خصومه"، بل تعبيراً عن التعدد الذي شكّلنا والذي يجب أن يشكّلنا من جديد.
الرسالة التي وجّهتها
الجمعية إلى رئيس الحكومة ليست مجرد طلب، بل تحدٍّ لوعي الدولة والمجتمع: هل نحن مستعدون
للاعتراف الكامل بمن كانوا هنا قبلنا؟ بمن شاركونا الملح والدمع؟ أم أننا سنظل نكتب
أسماءنا في شوارع ضيقة، نخاف فيها من ظلّ التاريخ؟
0 التعليقات:
إرسال تعليق