شهدت المملكة المغربية، بعد حصولها على الاستقلال، مجموعة من التوترات الاجتماعية والسياسية التي ترتبط بطبيعة المرحلة الانتقالية وبالتباينات الجهوية داخل البلاد. ومن أبرز هذه الأحداث، انتفاضة الريف التي اندلعت في أواخر سنة 1958 واستمرت حتى أوائل 1959، والتي تعد من أعمق اللحظات المفصلية في تاريخ المغرب المستقل، لأنها كشفت حدود الأجهزة الوليدة للدولة المركزية في تعاملها مع الاحتجاجات الشعبية وأبرزت هشاشة التوازنات السياسية بين السلطة والحركة الوطنية.
في البداية يجب فهم
أن منطقة الريف كانت قد خرجت لتوّها من حرب طاحنة (حرب الريف 1921–1926) تركت آثارًا
عميقة في الذاكرة الجماعية للقبائل الريفية. ومع استقلال المغرب في 1956، تزايدت التطلعات
نحو تنمية اقتصادية وإدماج سياسي حقيقي للمنطقة ضمن المشروع الوطني، غير أن الواقع
اتجه عكس ذلك: استبعاد رموز المقاومة المسلحة من مواقع القرار، ضعف البنية التحتية،
ارتفاع البطالة، وانتشار الشعور بالتهميش أدى إلى تراكم احتقان اجتماعي كبير داخل مدن
الحسيمة والناظور والدرويش.
مع حلول شهر أكتوبر
1958، بدأت التعبئة في صفوف أبناء القبائل، وبرز دور المحارب السابق في جيش التحرير
«عباس لمسعدي» باعتباره رمزًا لمقاومة الاحتلال ورفض الخضوع للمركز. رفعت شعارات تنادي
بمحاسبة “العملاء”، وبعودة «عبدالكريم الخطابي» من منفاه في القاهرة، وبتوفير فرص الشغل
للساكنة. تشكّلت لجان محلية وتكثفت الاجتماعات السرية، إلى أن تحولت الاحتجاجات تدريجياً
إلى حراك مسلح تمكّن من السيطرة على مناطق واسعة داخل الريف.
الدولة المركزية اعتبرت
ما يحدث تهديداً مباشراً لوحدتها في ظل صراعٍ سياسي حاد بين حزب الاستقلال والقصر الملكي.
كما أن حكومة عبد الله إبراهيم – ذات التوجه الإصلاحي – وجدت نفسها في وضع صعب، إذ
لم يكن لديها النفوذ الكافي لضبط الأجهزة العسكرية والأمنية. أمام هذا الواقع، تم اتخاذ
قرار حاسم بتدخّل الجيش. في بداية يناير 1959، أعطى ولي العهد آنذاك، الأمير «مولاي
الحسن»، الذي سيصبح ملكا بعد وفاة محمد الخامس أوامره بشنّ هجوم واسع، حيث حُشدت وحدات
من الجيش الملكي مدعومة بسلاح المدفعية وسلاح الجو، وتم تطويق القرى والمداشر الريفية.
أُطلقت حملة قصف جوي
مكثف استهدفت مواقع يشتبه في أنها مراكز للعمل المسلح، وسرعان ما أعيدت السيطرة على
الحسيمة والنواحي. قامت القوات العسكرية باعتقالات واسعة وتفكيك الخلايا المحلية، وتم
اعتقال المئات، بينهم عناصر من جيش التحرير، كما لجأت السلطات إلى سياسة “المصالحة
الظرفية” بتوفير بعض موارد الغذاء وإعادة تشغيل مصالح إدارية لامتصاص الغضب الشعبي.
رغم نجاح العملية العسكرية
في فرض الهدوء، إلا أن آثار هذه المواجهة ظلت راسخة في الذاكرة الجماعية، خاصة بسبب
ما رافقها من قسوة واستخدام مفرط للقوة. وقد ساهمت هذه الأحداث في ترسيخ شعور عميق
بالغبن لدى سكان الريف، وعمّقت الهوة بين الدولة المركزية والمجال الجبلي الشمالي،
ما جعل ملف “الريف” لاحقاً واحداً من أكثر الملفات حساسية في تاريخ المغرب المعاصر.
كما كشفت هذه الأحداث أن السلطة لم تكن تمتلك بعد أدوات الوساطة السياسية، وأنها تميل
إلى منطق “الردع” عند أول اختبار حقيقي لوحدة الدولة.
من الناحية السياسية،
استفاد القصر من هذه الأزمة لتعزيز نفوذه داخل المؤسسة العسكرية، وأصبح ولي العهد يُنظر
إليه باعتباره الحامي الفعلي لوحدة الدولة، وهي صورة تمّ ترسيخها لاحقاً في الخطاب
الرسمي. في المقابل، تراجعت شرعية حزب الاستقلال في الأوساط الشعبية، بسبب عجزه عن
احتواء الاحتجاج أو تأطيره سياسياً، الأمر الذي مهّد التدريج لانقساماته الداخلية وخسارته
جزءاً من قاعدته المجتمعية.
إن أحداث الريف
1958–1959 شكّلت عمقاً تأسيسياً لتحولات كبرى في بنية الدولة المغربية؛ فمن جهة أفرزت
اقتناعاً لدى السلطة بأنّ “الريف” يشكل مجالاً مركباً ينبغي التعامل معه بمنطق أمني–سياسي
مزدوج، ومن جهة أخرى حفزت كثيراً من الفاعلين المحليين على تطوير خطاب سياسي مغاير
قائم على العدالة الاجتماعية والاعتراف بالخصوصيات الثقافية.
ولا يمكن فهم حراك
الريف في العقود اللاحقة دون العودة إلى هذه المحطة، التي سجّلت أول اختبار جدي لعلاقة
المركز–الهامش في المغرب المستقل.
المراجع والمصادر
1. محمد ضريف، «الحياة السياسية المغربية: من
الاستقلال إلى اليوم»، دار توبقال، 2018.
2. عبد الله العروي، «مجمل تاريخ المغرب»، المركز
الثقافي العربي، 2010.
3. محمد الناصري، «الريف: المقاومة والمجال والذاكرة»،
منشورات كلية الآداب، وجدة، 2002.
4. Andrew
Pennell, «Morocco since 1830: A History», London: Hurst, 2000.
5. David Seddon
& Mohamed Maghraoui, “The 1958–59 Rif Uprising in Morocco Revisited,” «The
Journal of North African Studies», 2003.
روابط لبعض المراجع»
«
[https://books.openedition.org/cedej/924](https://books.openedition.org/cedej/924)
[https://journals.openedition.org/remmm/11234](https://journals.openedition.org/remmm/11234)
[https://www.jstor.org/stable/826402](https://www.jstor.org/stable/826402)
يتبع
0 التعليقات:
إرسال تعليق