يمثل كتاب "Writing Machines" للباحثة الأمريكية كاثرين هايلز Katherine Hayles أحد النصوص المحورية في الدراسات المعاصرة التي تبحث في التحولات العميقة التي طرأت على فعل الكتابة في العصر الرقمي. فهو ليس مجرد تأمل نقدي في طبيعة النصوص، بل هو محاولة جريئة لتوسيع حدود ما نعتبره «كتابة» لتشمل التفاعلات المادية والتقنية والجمالية التي تنشأ حين تصبح الكتابة مرتبطة عضوياً بالوسيط الذي يحملها.
الكتاب، الذي ينتمي
إلى مشروع هايلز الأوسع حول الأدب الإلكتروني والنصوص المولدة رقمياً، يقف عند تقاطع
النظرية الأدبية، ودراسات الإعلام، وفلسفة التقنية، ليطرح سؤالاً جوهرياً: هل يمكن
أن نفهم الكتابة اليوم من دون أن نأخذ في الاعتبار مادّية الوسيط الذي يحققها؟
الكتابة المتموضعة
في وسيطها
تنطلق هايلز من أطروحة
مركزية مفادها أن النصوص ليست كيانات مجردة يمكن فصلها عن وسائطها، بل هي كيانات «متجسدة» (Embodied) تتشكل معانيها من خلال التفاعل بين المحتوى
والوسيط المادي الذي يُجسّد هذا المحتوى. هذه الرؤية تضعها في مواجهة التصورات التقليدية
التي كانت تتعامل مع النص باعتباره بنية لغوية خالصة، يمكن دراستها بمعزل عن أي بعد
مادي أو تكنولوجي.
تستعير هايلز من النقد
المادي للنصوص
(Materialist Criticism) مفهوماً أطلقت عليه "Media-Specific Analysis" أو «التحليل الخاص بالوسيط»، وهو منهج يدعو
إلى دراسة النصوص انطلاقاً من خصائص الوسيط الذي تُنتَج وتُستَقبل من خلاله، سواء كان
كتاباً مطبوعاً، أو شاشة حاسوب، أو تطبيقاً تفاعلياً.
بين المطبوع والرقمي
يرصد الكتاب لحظة التحول
من الكتابة الورقية إلى الكتابة الرقمية، معتبراً أن هذا الانتقال لا يمثل مجرد تبديل
للأداة، بل هو إعادة تشكيل لعملية الكتابة والقراءة معاً. فالنص الرقمي، على عكس المطبوع،
يتميز بخصائص تفاعلية، وبإمكانية دمج الصور، والصوت، والفيديو، والحركات البصرية، مما
يحول القارئ من متلقٍ سلبي إلى مشارك نشط في إنتاج المعنى.
تستعرض هايلز نماذج
لأعمال رقمية وأخرى هجينة (print-digital hybrids) مثل أعمال مارك دانيلفسكي (Mark Z.
Danielewski) في روايته
الشهيرة
House of Leaves، التي تستخدم تصميم الصفحات،
وتوزيع النصوص، والعناصر البصرية، كجزء من البنية السردية نفسها. هذه الأمثلة تكشف
أن «المكان» الذي يُكتب فيه النص، و«الطريقة» التي يُقدم بها، يمكن أن يكونا جزءاً
من المعنى، وليس مجرد حوامل محايدة له.
النصوص كآلات للكتابة
يُفرد الكتاب مساحة
واسعة لمناقشة مفهوم «الكتابة بوصفها آلة» (Writing Machines)، حيث لا تعود الكتابة مجرد عملية لغوية، بل تصبح
عملية تقنية-مادية، تشارك فيها مكونات غير بشرية: الحاسوب، البرمجيات، واجهات الاستخدام،
وحتى لغات البرمجة. هنا، يلتقي المشروع الفكري لهايلز مع نظريات الأنثروبولوجيا الجديدة
للتقنية، التي ترى أن الإبداع الأدبي في العصر الرقمي هو نتاج تفاعل بين المؤلف، والقارئ،
والآلة.
بهذا المعنى، يقترب
الكتاب من طروحات برونو لاتور حول الشبكات الفاعلة، حيث لا يمكن فصل العنصر البشري
عن العنصر غير البشري في إنتاج المعرفة. في حالة الأدب الرقمي، تصبح الخوارزمية شريكاً
في توليد النص، سواء من خلال عمليات عشوائية، أو تفاعلية، أو عبر تصميم مسبق للبنية
النصية.
إرث المادية الطباعية
رغم احتفائها بالإمكانات
الجديدة للوسائط الرقمية، لا تنفي هايلز أهمية الإرث المطبوعي، بل ترى أن فهم الأدب
الرقمي يتطلب استيعاب جذوره في الثقافة الطباعية. فالعديد من التجارب الرقمية تستعير
بنيات سردية أو شعرية من الأدب المطبوع، لكنها تعيد إنتاجها بوسائط جديدة تضيف أبعاداً
حسية وتفاعلية غير ممكنة في الورق.
تُذكّرنا هايلز هنا
بأن التحولات التقنية لا تقطع مع الماضي قطعاً كاملاً، بل تعمل ضمن ما تسميه «الاستمرارية
المادية» بين الأشكال القديمة والجديدة، وهو مفهوم قريب مما طرحه مارشال ماكلوهان في
قوله الشهير: «المحتوى لأي وسيط جديد هو وسيط قديم».
الكتابة، الجسد، والوسيط
أحد الجوانب اللافتة
في الكتاب هو ربط هايلز بين الكتابة والجسد، ليس بالمعنى البيولوجي المباشر، بل باعتبار
أن كل نص هو شكل من «تجسيد» المعنى في وسيط مادي محدد. فالكتاب المطبوع له جسده الورقي،
وملمسه، ورائحته، وتفاعله الفيزيائي مع القارئ، بينما للنص الرقمي جسده الافتراضي الذي
يتشكل عبر الشاشات والتفاعلات البصرية والصوتية.
هذا الربط بين الجسد
والنص يفتح الباب أمام مقاربات جمالية جديدة، ترى أن القراءة ليست نشاطاً ذهنياً صرفاً،
بل هي أيضاً تجربة حسية. وهنا يمكن الربط مع أعمال جيروم ماكغان في «النقد المادي» (Material
Textuality) التي تركز
على دراسة البعد الحسي للنصوص.
قيمة الكتاب في الدراسات
الأدبية
تكمن أهمية "Writing
Machines" في أنه
يدفع الدرس الأدبي إلى إعادة النظر في أدواته ومفاهيمه لمواكبة التحولات التكنولوجية.
فإذا كانت البنيوية والسيميائية قد ركزتا على النص بوصفه بنية مغلقة، فإن مقاربة هايلز
تفتح النص على وسيطه، وعلى تفاعلاته المادية والثقافية والتقنية.
من الناحية الأكاديمية،
أصبح الكتاب مرجعاً أساسياً في حقول الدراسات الإعلامية، والأدب الإلكتروني، والنقد
المادي للنصوص، ويستخدم في تدريس مناهج «تحليل الوسيط» التي تطبق على أنواع النصوص
كافة، من المخطوطات القديمة إلى ألعاب الفيديو التفاعلية.
تقييم نقدي
رغم قوة أطروحة هايلز،
قد يرى بعض النقاد أنها تذهب بعيداً في التركيز على الوسيط على حساب المحتوى، مما قد
يؤدي أحياناً إلى تهميش البعد الدلالي للنصوص لصالح البعد المادي. ومع ذلك، فإن هذا
الميل يجد ما يبرره في السياق الراهن، حيث تُطرح أسئلة جديدة حول طبيعة المؤلف، ودور
القارئ، وحدود النص، في ظل البيئة الرقمية.
كذلك، يمكن القول إن
الكتاب يظل مركزياً في سياق الثقافة الغربية، إذ يعتمد على أمثلة من الأدب الأمريكي
والأوروبي، ما يترك مساحة مفتوحة لتطبيق منهجه على نصوص رقمية من ثقافات أخرى، بما
فيها الثقافة العربية التي تشهد تجارب واعدة في مجال السرد التفاعلي والشعر الرقمي.
خاتمة
"Writing
Machines" ليس مجرد كتاب عن الأدب الرقمي، بل هو بيان نظري
يدعو إلى إعادة تعريف الكتابة نفسها في عصر تحولت فيه الكلمات إلى كائنات هجينة، تتغذى
على الخوارزميات بقدر ما تتغذى على الإبداع البشري. إنه نص يذكّرنا بأن الكتابة لم
تعد حكراً على القلم والورق، وأن فهمها اليوم يتطلب الانتباه إلى الآلات التي تكتب،
والوسائط التي تنقل، والأجساد – البشرية وغير البشرية – التي تمنح النصوص حياتها.
0 التعليقات:
إرسال تعليق