الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، أغسطس 07، 2025

الصحافة الرقمية في حضرة العلم: من نقل الوقائع إلى صناعة الفهم: ترجمة عبده حقي


أصبحت الصحافة الرقمية أحد الممرات الحاسمة التي يعبر منها الخطاب العلمي إلى المجال العمومي. لم تعد مهمة الصحافي العلمي تنحصر في تبسيط المفاهيم أو إيصال نتائج التجارب، بل بات يُنتظر منه أن يترجم ثورات العلوم إلى سرديات قابلة للفهم، دون أن يُفرّط في الدقة أو يغرق في التهويل. فما الذي تغير في العلاقة بين الصحافة والعلم بعد الرقمنة؟ وكيف أثر هذا التحول على تمثلات الجمهور للمعرفة العلمية؟

التحول الرقمي قلب المشهد الإعلامي رأساً على عقب، وأعاد صياغة العلاقة بين مصادر الخبر وجمهوره. في السابق، كانت الصحافة الورقية تحتفظ بهيبتها بوصفها قناة موثوقة للنقل المعرفي، أما اليوم، فإن انتشار المنصات الرقمية وتطبيقات الهواتف المحمولة سمح لكل قارئ بأن يتحول إلى مستهلك نشِط وأحيانًا منتِجًا للخبر. لقد أصبح الصحافي في مواجهة قارئ ذكي، يتقاطع معه على شاشات متعددة، ويطالبه بربط الخبر العلمي بمصلحته اليومية، سواء تعلّق الأمر بتغير المناخ أو بلقاح جديد.

هذا التحول فرض على الصحافة العلمية الرقمية أن تتخلى عن بعض أدواتها التقليدية، وتطور آليات جديدة في السرد والعرض. لم يعد يكفي أن يُنشر تقرير عن الاكتشافات في الفيزياء الفلكية أو التطورات في علاج السرطان، بل ينبغي أن يُرفق هذا الخبر بإنفوغرافيك، وبودكاست، وربما فيديو تفاعلي، كما تفعل منصات مثل

National Geographic» أو «Scientific American» بنُسَخِها الرقمية، لتضمن انخراط القارئ واستيعابه. على سبيل المثال، كشفت صحيفة «الغارديان» في إحدى تغطياتها لتقارير "الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ" (IPCC) عن أسلوب فريد مزجت فيه بين السرد القصصي الشخصي والبيانات العلمية، مما جعل القارئ لا يطالع فقط تقريراً بيئياً، بل يعيش أزمة المناخ على المستوى الإنساني.

من جهة أخرى، ساهمت الصحافة الرقمية في خلق ما يمكن تسميته بـ"الديمقراطية العلمية"، إذ أزالت الحواجز التقليدية بين المختبر والمجتمع. أصبحت المقالات العلمية تنشر بسرعة، وتُتداول بشكل فوري على وسائل التواصل الاجتماعي، مما سمح للعلم بالخروج من جدران الأكاديميا إلى الشارع. غير أن هذه السرعة لم تكن دوماً نعمة. فكما لاحظ الباحث «Matthew Nisbet»  في مقاله بعنوان :

"Communicating Climate Change: Why Frames Matter"، " التواصل بشأن تغير المناخ: لماذا أهمية الإطارات " فإن الأطر التي تقدم بها الأخبار العلمية قد تؤثر بشكل عميق على إدراك القارئ، بحيث يُمكن أن يتحول الخبر العلمي من مادة معرفية إلى وقود لصراعات إيديولوجية.

تُطرح هنا مسألة الدقة والمصداقية. هل تتعارض مقتضيات السرعة الرقمية مع منطق التحقق العلمي؟ في حالات كثيرة، نعم. فقد شهدنا خلال جائحة كوفيد-19 انتشارًا واسعًا للمعلومات الطبية الزائفة، رغم وجود تغطيات إعلامية مكثفة. الأمر الذي دفع منظمة الصحة العالمية إلى التحذير من "الوباء المعلوماتي " (infodemic)، حيث يتدفق سيل هائل من الأخبار، الحقيقية والمغلوطة، في آن واحد. وفي هذا السياق، لم يعد الصحافي مجرد ناقل، بل صار مسؤولاً عن تصفية هذا السيل، والتمييز بين ما هو علمي وما هو محض رأي متنكر في زي علمي.

لكن من الإنصاف القول إن بعض المبادرات الرقمية نجحت في مواجهة هذا التحدي. فقد أطلقت مؤسسات مثل «BBC Future» و»Le Monde Science & Médecine» أقسامًا مخصصة للتحقق العلمي، تعتمد على مراجعة الأبحاث الأساسية، وتستضيف علماء في مختلف التخصصات، لتقديم قراءة نقدية ومتزنة للأخبار العلمية. كما ساهمت أدوات الذكاء الاصطناعي في تطوير تقنيات للكشف عن المعلومات الزائفة، وهو ما يعيد رسم حدود العمل الصحافي العلمي في عصر المعلومة الكاسحة.

بالمقابل، لا تزال بعض المنصات الرقمية تغازل الإثارة على حساب العمق، فتعنون مقالاتها بكلمات مثل "اكتشاف مذهل"، أو "علماء يُذهلون العالم"، مما يختزل البحث العلمي في لحظة استعراضية، تتغذى على الخوارزميات أكثر مما تتغذى على الفهم. وهنا تكمن المفارقة: في الوقت الذي فتحت فيه الرقمنة آفاقًا جديدة أمام الصحافة العلمية، فإنها تهددها أيضًا بالسطحية والانزلاق إلى منطق "الترند".

في نهاية المطاف، يمكن القول إن الصحافة الرقمية أعادت تشكيل دور الصحافي العلمي ليصبح أقرب إلى "وسيط معرفي"، عليه أن يتقن لغة العلم، ولغة الوسائط، ولغة الجمهور في آن واحد. هو أشبه بمترجم لا ينقل المعنى فحسب، بل يبني الجسور بين العوالم. وتبقى التحديات مفتوحة: كيف نوازن بين الدقة والجاذبية؟ بين السرعة والتحقق؟ بين التبسيط والتسطيح؟ إنها معركة يومية في فضاء إعلامي لا يعرف السكون، حيث يصبح الخبر العلمي، كما قال جان بودريار ذات مرة عن الصورة، أكثر واقعية من الواقع نفسه.

««المراجع«

« Nisbet, M. C. (2009). «Communicating Climate Change: Why Frames Matter», Environment.

« World Health Organization. (2020). «Managing the COVID-19 infodemic».

« The Guardian, Climate section: IPCC Report Coverage.

« BBC Future, Science Fact-checking Initiatives.

« Kirschenbaum, Matthew. «Mechanisms: New Media and the Forensic Imagination».

0 التعليقات: