الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، سبتمبر 21، 2025

عابرو النصوص: زوالية السرد التشعبي وتحدّي الدوام الأدبي: ترجمة عبده حقي


قراءة مقارنة بين تجارب عربية وغربية: من «إيلاف هم» و«إني وضعتها أنثى» لسعيدة تاقي إلى «Afternoon, a story» لمايكل جويس

لا يعود الأدب اليوم إلى بيتٍ واحد يستريح فيه طويلاً. يخرج من الورق، يعبر الشاشات، ويتوزّع عبر روابط تفتح دروبًا جانبية كأنها ممرّات في مدينة بلا مركز. في هذا الأفق، يبدو السرد التشعبي ممارسةً للنص وهو يتفلّت من قبضتيْ الثبات والخاتمة، ويُعيد طرح سؤال قديم بصيغة جديدة: هل يُقاس الأدب بقدرته على البقاء، أم بقوّته على إحداث الأثر في اللحظة؟

هذه الدراسة تحاول تفكيك «زوالية» السرد التشعبي—بوصفها خاصية بنيوية لا مجرّد أثر جانبي للتقنيات—ثم تُقاربها مقاربة مقارنة بين مشهدين: تجربة عربية تتجلى في أعمال الروائية والناقدة المغربية سعيدة تاقي التي راكمت سردًا ورؤية نقدية حول الذات والتاريخ والجندر، وتجربة غربية مفصلية يمثلها مايكل جويس في نصه المؤسِّس "قصة ما بعد الظهيرة"  «Afternoon, a story»؛ مع فتح قوسٍ عربيٍ إضافي عند رائد السرد الرقمي العربي محمد سناجلة بوصفه جسرًا بين اللغة العربية والبُنى التشعبية.

من الدوام إلى الحدث: إطارٌ نظريّ

قدّم جورج لاندو وما بعده نسخةً نقديةً موسّعة لفهم التحوّل الذي أدخلته الروابط التشعبية على مفهوم النص والقراءة؛ إذ لم يعد القارئ «متلقّيًا» بل «قارئًا-مؤلِّفًا» يختار مسارات ويعيد تركيب الدلالة في كل عبور. هذه الوضعية تعني أن «الدوام»—بمعنى استقرار بنية المعنى عبر قراءاتٍ متعدّدة—يتعرّض للاهتزاز؛ فكل قراءة تصبح حدثًا فريدًا لا يمكن استعادته بالطريقة نفسها.

إنّ ما أسماه بولتر «إعادة الوساطة» يذهب في الاتجاه ذاته: النص الرقمي لا ينسخ المطبوع، بل يعيد تشكيله ضمن اقتصاد وسائطي جديد يُشغّل الصورة والصوت والحركة معًا. مثل صخرة تتدحرج فتترك أثرًا متغيّرًا على المنحدر، يتحرك المعنى مع كل نقرة، مُعيدًا تعريف القراءة باعتبارها فعلًا أدائيًّا لا استهلاكيًّا.

قدّمت كاثرين هايلز إطار «التحليل المُراعي للوسيط» لتأكيد أن المادة الحاملة للنص ليست حياديّة: بنية الرابط وزمن التحميل والنافذة المنبثقة ليست تفاصيل تقنية، بل أجزاء من الدلالة ذاتها. أما إسبن آرسيث فوسّع زاوية النظر باقتراح مفهوم «الأدب الإرغودي»؛ أي ذلك الذي يتطلّب جهدًا غير تفسيريّ فقط، بل تشغيليًّا من القارئ، حيث يصبح الانتقال عبر الشبكات النصّية جزءًا من إنتاج المعنى. بهذين المنظورين يمكن فهم «الزوالية» هنا كخاصية «زمنية-إجرائية» للنص، لا كعيبٍ في حفظه.

مايكل جويس واللحظة التأسيسية

منذ منتصف الثمانينيات، ومع تطوير منصة "ستوريسبيس"  «Storyspace» على يد جويس وبولتر، وُلدت إحدى اللحظات الحاسمة في تاريخ السرد الرقمي

: «Afternoon, a story». هذا العمل الذي وصفه روبرت كوفر بـ«جدّ» السرد التشعبي وضع القارئ أمام «حِبالة» من العُقَد السردية ومساراتٍ متقادحة، حيث لا تكتمل قصةٌ إلا لتتكشّف عن قصةٍ أخرى. من هذه الممارسة وُلدت مفردات نظريّة تُعادل في تأثيرها ما أحدثته الرواية الواقعية في القرن التاسع عشر. ومع أن الحلم المبكّر بتعميم السرد التشعبي على الثقافة الجماهيرية لم يتحقق بالقدر المتخيّل—كما تقول قراءة نقدية لاحقة لمسار «فشل النقر»—فإن القيمة الأدبية والفلسفية لهذا التحوّل بقيت مؤسِّسة لفهمنا المعاصر للقراءة.

غير أن هذه اللحظة التأسيسية كشفت أيضًا عن مأزقٍ ملازم: كيف يُصان نصٌّ يعتمد على برمجيات سريعة التقادم؟ مع نهاية دعم «فلاش» عام 2020، أصاب العطب كثيرًا من الأعمال الرقمية، فبرزت مبادرات للحفظ والأرشفة تقودها مؤسسات كمنظمة الأدب الإلكتروني (ELO) و«رايزوم» عبر «ويب ريكوردر» ومحاكاة البيئات البرمجية القديمة. ما يظهر هنا ليس مجرد مشكلة تقنية، بل «مِحك زوالي»: أن النص التشعبي قد يتلاشى فعلاً ما لم تُصمَّم له بنية حفظٍ تضع «الدوام» ضمن عُدة إنتاجه.

سعيدة تاقي: سردٌ يكتب الذات ويشاكس الأطر

في الضفة العربية، لا تمثّل سعيدة تاقي اسماً في السرد فقط، بل صوتًا نقديًّا ينحت أسئلته حول الجندر والتاريخ والذات، كما تكشف حواراتٌ ومداخلات صحفية وعلمية. كتبها—من «إيلاف هم» إلى «إني وضعتها أنثى»—لا تُصنَّف عمومًا ضمن «التشعبي» تقنيًّا، لكنها تُحاور «الزوالية» بمعنى آخر: تفكيك اليقين السردي وإعادة توزيع سلطة الحكي بين الراوي والشخصيات والقارئ. تُمارس تاقي، بوصفها باحثة في تحليل الخطاب، كتابةً «متعددة المَرافئ»؛ إذ تتقاطع الرواية مع أطروحة نقدية تُسائل تمثيلات الجسد والهوية والسرد المضاد. هذه الدينامية تفتح الباب لقراءةٍ «تشعبية الدلالة» وإن ظلّ النص مطبوعًا.

إذا وضعنا تاقي في مواجهة جويس، فليس المقصود المفاضلة بين وسيطين بل اختبارُ فرضيّة: هل يمكن للسرد العربي أن ينجز «تشعبيته» الدلالية دون الارتكاز إلى بنية الروابط التقنية؟ تجيب بعض مقاطع تاقي بالإيجاب؛ إذ تتقدّم الرواية عندها كفضاء تفاعلي عبر التعدّد الصوتي والالتباس الدلالي وتضفير السرد بالتأمل النظري. هنا، تبدو «الزوالية»—لا بوصفها نتيجة هشاشة وسيطٍ تقني—بل باعتبارها استراتيجية جماليّة تُعيد تعريف الدوام، إذ يستمر النص عبر تعدّد قراءاته المتباينة لا عبر استقرار نسخة واحدة «نهائية».

جسرٌ عربي: محمد سناجلة ومسرحة اللحظة الرقمية

كي يكتمل المشهد، يُفيد استدعاء تجربة محمد سناجلة، الذي سمّى مشروعه «الرواية الواقعية الرقمية». في «ظلال الواحد» وأعمالٍ لاحقة، قدّم بنيةً تمزج النص بالصوت والصورة والحركة، واضعًا القارئ أمام تجربة لا تُقرأ فقط، بل «تُخاض»، على نحوٍ يلاقي أطروحة هايلز. هنا تصبح «الزوالية» أكثر كثافة: إنّ لحظة التلقي محكومة بزمن تشغيل الوسائط وتزامنها، وهي عناصر لا يمكن تثبيتها دون بنية حفظٍ واعية. تُظهر أعمال سناجلة أن العربية قادرة على اللعب في ملعب التشعب التقني لا الدلالي فحسب، وأن راهن الأدب العربي ليس مقصورًا على حيلة الطباعة، بل يمكنه أن يُنافس في فضاء الأداء النصي.

زواليةٌ مُثقلة بالذاكرة

يُقال إن التشعبي ينسى سريعًا. غير أن هذا الحكم يختزل المشهد. فالنصوص الرقمية تحمل «ذاكرةً توزيعية»—موزّعةً بين السيرفرات، النسخ المؤرشفة، السِّجلات التعليميّة، ومختبرات الحفاظ—تقاوم الفناء بآليات مؤسسية وجماعية. ما تقوم به ELO ومختبرات الأدب الإلكتروني من بناء مستودعات وقواعد بيانات ومحاكياتٍ للبرمجيات القديمة يشي بأن «فترة حياة النص» لم تعد شأنًا فرديًّا للمؤلّف والناشر، بل مشروعًا اجتماعيًّا/أرشيفيًّا تشارك فيه جامعات ومؤسسات تمويل ومجتمعات هواة. وبهذا المعنى، لا تُفهم «الزوالية» كتلاشي، بل كحالةٍ قابلة للإدارة إن رافقتها سياسات حفظٍ واعية.

مقارنة معمّقة: أنماط «التشعب» بين تاقي وجويس

ينطلق جويس من فرضية تقنية: النص شبكة عقد وروابط تُسافر فيها العين والإرادة معًا. أما تاقي فتنطلق من فرضية معرفية: السرد شبكةُ أصواتٍ وتمثيلاتٍ تُسافر فيها الرؤية النقدية بين قضايا الجندر والذات والتاريخ. كلاهما يُعيد توزيع السلطة على القارئ، لكنّ «حق الاختيار» عند جويس فعلٌ فوريّ عبر النقر، فيما هو عند تاقي فعلٌ تأويليّ يتطلب إعادة ترتيب الخطاب وإسقاط قراءات متغايرة على بنيةٍ مطبوعة. وبذلك تتبدّى «الزوالية» عند جويس بوصفها تحوّلًا في «زمن القراءة»؛ إذ لا تتكرّر الرحلة في «Afternoon» على الوجه نفسه مرتين، فيما تظهر عند تاقي كتحوّل في «زمن المعنى»؛ إذ لا تستقر الدلالة على مرساها لأنها تستدعي خارج النص من تاريخٍ وذاتٍ وجندر.

في الحالتين، تهتزُّ فكرة «النسخة النموذجية». لدى جويس، لأن كلّ مسارٍ يعيد كتابة النص. ولدى تاقي، لأن كل مقاربة نقدية تعيد توزيع الحكاية بين قوى اللغة والواقع. إنّ التشعّب التقني ينتج تشعّبًا تأويليًّا؛ أما التشعّب التأويلي فيمكنه—حين يُكتَب على وعيٍ بنيوي—أن يحاكي أثر التشعب التقني في مستوى الدلالة وإن ظلّت الصفحة ثابتة.

سؤال القارئ: من المتلقّي إلى الشريك

تلتقي التجربتان في تحويل القارئ إلى «شريكٍ» لا «مُستهلك». نظرية «القارئ-المؤلف» التي صاغ لاندو تعثر على تطبيقها الحرفيّ في «Afternoon»، حيث يُنتج القارئ سردًا مخصوصًا بمساره؛ لكنها تعثر على تطبيقٍ دلاليّ في روايات تاقي التي تُغري القارئ بتوسيع المساحة التأويلية وإعادة تركيب السلطة بين الصوت السارد والأصوات المكبوتة. إنّ هذا الانتقال يتسق مع تحوّلات الثقافة الرقمية عموماً حيث يصبح «الأثر» أهمّ من «الأصل»؛ الأمر الذي تُفسّره هايلز ضمن منظورٍ يخلخل مركزية «الكتاب/الشيء» لصالح «الكتاب/الحدث».

الاقتصاد السياسي للزوال

لا يمكن فصل زوالية السرد التشعبي عن اقتصاد المنصّات. فالاستثمار في الوسائط القصيرة واللقطات الخاطفة والدوائر المغلقة للواجهات يجعل الزمن المتاح للقراءة زمنًا مقطَّعًا، يفضّل اللحظة على الامتداد. على هذا الأساس، يتبدّل معيار القيمة: لا يعود «البقاء» هو الضامن الوحيد لرسوخ النص، بل قدرته على توليد أثرٍ كثيف في زمنٍ وجيز. في هذا السياق، تنبّه شوشانا زوبوف إلى أن الرأسمالية الرقابية تُعيد صياغة علاقتنا بالمعلومة والزمن معًا؛ وهي ملاحظة تمتد آثارها إلى السرد التشعبي الذي يزدهر داخل اقتصاد الانتباه لكنه يظل معرّضًا لتقادم البرمجيات. ومن هنا الحاجة إلى تحويل الحفظ من ردّة فعل إلى جزء من التصميم منذ البداية.

نحو كتابةٍ عربية تتبنّى «التشعّب المُصان»

إذا أردنا الانتقال من الاستلهام إلى البناء، تُفيد المقارنة في اقتراح مسارات عملية للكتابة العربية:

أولاً، دمج الوعي الحفظيّ في التصميم السردي ذاته: اختيار معايير وتقنيات مفتوحة وقابلة للمحاكاة لاحقًا (HTML5/WebGL) بدل الارتهان لبيئات مغلقة انتهى دعمها مثل «فلاش». ثانيًا، بناء شراكات مع مختبرات ومؤسسات تحفظ الأعمال منذ لحظة إنتاجها، على نحو ما تفعله ELO ومختبرات «رايزوم» ومبادرات الجامعات التي تُمكِّن من المحاكاة البيئية للبرمجيات القديمة. ثالثًا، تفعيل «التشعب الدلالي» حتى ضمن الأعمال المطبوعة، عبر مزيدٍ من التعدّد الصوتي، واللعب على الحدود بين أجناس الكتابة، والتفاعل مع أرشيفات رقمية تُرفق بالكتاب وتشتبك معه. بهذه الخيارات، يصبح ممكناً تحويل «الزوالية» من تهديدٍ إلى أسلوب، ومن هشاشةٍ إلى حيوية

خاتمة: الدوام كقابلية لإعادة العبور

ما الذي يبقى من نصٍّ يتبدد مساره مع كل قراءة؟ ربما يبقى ما هو أثمن من النسخة: يبقى «إمكان المرور». الدوام هنا ليس طول العمر المادي للكتاب، بل قابليته لأن يُعاد عبوره بلا نهائية، وأن يخلق في كل مرّة أثرًا جديدًا. هكذا يمكن أن نقرأ التجربتين: جويس يقترح دوامًا «إجرائيًّا» يقوم على تكرار العبور واختلافه، وتاقي تقترح دوامًا «تأويليًّا» يقوم على تكرار القراءة وتحوّل معناها. وبينهما، يشتغل سناجلة على مسرح اللحظة الرقمية مُضاعفًا التزامن بين الوسيط والدلالة. إنّ السرد التشعبي، حين يُصمَّم بعينٍ فنيةٍ وأخرى أرشيفية، لا ينسف الدوام بل يعيد تعريفه: دوامٌ لا يقاس بـ«بقاء الشيء» بل بـ«استمرار الحدث».

مراجع وإشارات أساسية

N. Katherine Hayles, Electronic Literature: New Horizons for the Literary (Notre Dame Press). يقدم إطار «التحليل المُراعي للوسيط» ويبرهن على أن خصوصيات الوسيط جزء من الدلالة.

Espen J. Aarseth, Cybertext: Perspectives on Ergodic Literature (1997). يؤسس لمفهوم «الأدب الإرغودي» الذي يتطلب جهدًا تشغيلياً من القارئ.

George P. Landow, Hypertext 2.0/3.0، وJay David Bolter, Writing Space (2001): مرجعان في فهم التحوّل الوسائطي ومفهوم «القارئ-المؤلف» و«إعادة الوساطة».

Michael Joyce, Afternoon, a story، وتاريخ تطوير «Storyspace»؛ مع قراءة نقدية لمسار التلقي العام.

سعيدة تاقي: حوارات وتعريفات بأعمالها الروائية («إيلاف هم»، «إني وضعتها أنثى») ومسارها النقدي في تحليل الخطاب والجندر.

محمد سناجلة وتجارب «الرواية الواقعية الرقمية» وملفات نقدية حولها.

حفظ الأدب الإلكتروني بعد نهاية دعم «فلاش» 2020: وثائق «أدوبي»، مبادرات ELO، «ويب ريكوردر/رايزوم»، ومشروعات «Afterflash».

0 التعليقات: