يشهد المغرب خلال السنوات الأخيرة تحولاً عميقاً في بنيته الاقتصادية، جعله يبرز كقوة صناعية وتجارية صاعدة في محيطه الإقليمي والدولي. هذا التحول لم يأتِ صدفة، بل كان نتيجة لاستراتيجية طويلة الأمد اعتمدتها الدولة منذ بداية الألفية الثالثة، ركزت على الاستثمار المكثف في البنية التحتية، والانفتاح على الاستثمارات الأجنبية، وتنويع القطاعات الإنتاجية.
خصص المغرب بين عامي 2001 و2017 نسبة تراوحت بين ربع وثلث ميزانيته السنوية لمشاريع البنية التحتية. وشملت هذه الاستثمارات مجالات متنوعة مثل الطاقات المتجددة، والسكك الحديدية فائق السرعة، وتوسعة ميناء طنجة المتوسط الذي أصبح اليوم واحداً من أهم الموانئ العالمية وربط المملكة بأكثر من 180 وجهة حول العالم. هذا التوجه مكّن من خلق بيئة جاذبة لرؤوس الأموال الأجنبية، وعزز قدرة البلاد على المنافسة في سلاسل الإنتاج الدولية.
من أبرز القطاعات التي
عرفت نمواً هائلاً قطاع السيارات، حيث أصبح المغرب في عام 2024 المصدّر الأول للسيارات
وقطع الغيار نحو السوق الأوروبية، متجاوزاً قوى صناعية تقليدية مثل الصين واليابان.
وقد ساهمت استثمارات ضخمة لشركات كبرى مثل رينو وستيلانتيس، إلى جانب مصانع أميركية
وصينية وأوروبية متخصصة في المكونات والقطع، في جعل القنيطرة والدار البيضاء محطات
رئيسية للإنتاج والتصدير.
إلى جانب السيارات،
يبرز قطاع الطيران كأحد محركات النمو، حيث ارتفعت مساهمة المغرب في تصنيع مكونات طائرات
إيرباص من 2% إلى 5%، فضلاً عن تطوير قطاعات أخرى مثل الصناعات الدوائية والطاقة.
استطاع المغرب استقطاب
ما يقارب 40 مليار دولار من الاستثمارات الصناعية الجديدة منذ عام 2020، وهو ما انعكس
في ارتفاع صادراته بنسبة الثلثين خلال خمس سنوات فقط. كما برزت الاستثمارات الصينية
بقوة، إذ تجاوزت عشرة مليارات دولار، أغلبها في مجال السيارات الكهربائية والبطاريات،
ما جعل المغرب واحداً من أبرز المستفيدين من مبادرة "الحزام والطريق".
هذا الحضور الكثيف
لرؤوس الأموال الأجنبية مكّن المغرب من تعزيز مكانته على خريطة الاقتصاد العالمي، لكنه
في الوقت نفسه يجعله عرضة لتقلبات السياسات الدولية والحروب التجارية، كما حدث مع فرض
الاتحاد الأوروبي رسوماً على بعض المنتجات المغربية.
رغم أن أوروبا تظل
الشريك التجاري الأول للمغرب، فإن المملكة تعمل على تنويع شراكاتها باتجاه القارة الأفريقية.
ويبرز مشروع خط أنابيب الغاز مع نيجيريا، الذي يمتد على طول 5600 كيلومتر عبر 11 دولة،
كخطوة استراتيجية تعزز دور المغرب في تأمين الطاقة للقارة. كما ساعدت منطقة "كازابلانكا
فاينانس سيتي" على جعل الدار البيضاء مركزاً مالياً إقليمياً يستقطب شركات كبرى
عالمية.
يبدو واضحاً أن المغرب
بات في موقع متقدم ضمن خريطة الاستثمارات والصناعات العالمية. غير أن نجاحه يظل رهيناً
بقدرته على مواجهة المخاطر المرتبطة بالتقلبات الجيوسياسية والاقتصادية، وعلى تعزيز
القيمة المضافة المحلية لتقليل الاعتماد على الشركات الأجنبية. ومع ذلك، فإن مسار التحديث
والقدرة على التكيف يمنح البلاد فرصاً متزايدة للترسخ كقوة صناعية وتجارية كبرى.
المراجع
تقرير مجلة The Economist حول الاقتصاد المغربي، 8 سبتمبر 2025.
بيانات FDI Markets حول الاستثمارات الأجنبية المباشرة في المغرب.
إحصائيات رسمية لوزارة
الصناعة والتجارة المغربية حول صادرات السيارات والطيران (2020–2024)
تقارير إعلامية اقتصادية
حول ميناء طنجة المتوسط، الخط الغازي مع نيجيريا، ومركز الدار البيضاء المالي.
0 التعليقات:
إرسال تعليق