إنه لعجب عجاب أن نشاهد اليوم كيف تطورت العجلة الفرعونية إلى شبكة عنكبوتية .. ورسالة على ظهر حمام زاجل إلى رسالة نصية قصيرة أو إلكترونية تقطع عشرات الآلاف من الأميال في رفة رمش. ولو قدر لعباس بن فرناس شهيد الآفاق أن ينهض من قبره هذا العصر ويرى كيف تحمل طائرة بوينج ما يناهز قبيلة لندم على تحليقه الانتحاري الذي أودى بحياته الغالية . وقس على ذلك أيها القارئ الكريم من آلاف الأمثلة التي توثق للتطور العلمي الذي لم يكن ليحقق الرفاه والسعادة للبشرية لولا التكلفة الباهظة التي أداها البعض لصالح الإنسانية جمعاء.
واليوم الثورة الرقمية هي ذروة هذا التطور المتراكم عبر قرون وبصمة
العصر الذي نعيشه اليوم .. وها هي تهيمن بسحرها الخاطف في عشرين عاما فقط على جل
ممارساتنا وأنشطتنا السلوكية والمهنية والطبية والتعليمية والتثقيفية والإعلامية
والترفيهية اليومية ..إلخ وقد حققت ما لم
تستطع البشرية تحقيقه على مدى عشرين قرنا الماضية . وأخطر من كل ذلك أنها غيرت
منظومة القيم الإنسانية ولعل أبرزها قيمتا المكان والزمان ، حيث نقلت كثيرا من
ممارساتنا الواقعية إلى ممارسات افتراضية وتفاعلية ... فلم نعد كما كنا قبل عقدين
من الزمن نطوي المسافات الجغرافية لتصريف وتنفيذ معاملاتنا ، بل أضحى الكثير منها
نحققه رقميا إما عن بعد أو بفضل شتى التطبيقات الإلكترونية وهكذا غدونا نسمع عن
الحكومة الإلكترونية والإدارة الإلكترونية والتجارة الإلكترونية وبطاقات التعريف
الإلكترونية ومنصات التواصل الإلكترونية والصحافة الإلكترونية .. إلخ ومما لاشك
فيه أن هذا التصاهر بين الواقعي والإلكتروني لن يتوقف عند هذا الحد ولن تتوقف عجلة
تطوره في هذه المشاهد التي قد تبدو للأجيال القادمة بعد عشرين عاما مثار للسخرية
حين يصبح في مقابل كل كائن بشري كائنا مستنسخا عنه رقميا ربما قد يحظى بتمثيلية
قانونية ومشروعة في تنفيذ بعض مهام صنوه الآدمي . ولا غرابة في ذلك فكم من أحلام
الخيال العلمي أصبحت اليوم واقعا نعيشه من دون أن نهتم به .
منصات التواصل
الاجتماعي باتت بمثابة مآوينا الافتراضية التي نتواصل تحت سقوفها مع الآخرين بشتى
أشكال الخطاب والتراسل والتواصل بل باتت هي بوق عديد من رؤساء الدول والسياسيين
ورجال الاقتصاد للتواصل مع شركائهم وحلفائهم وأعدائهم على حد سواء. ومن المؤكد أن
جل دول العالم قد طورت أجهزة المراقبة على اختلاف أشكالها من ووظائفها من شوارع
الواقع إلى شوارع منصات التواصل الاجتماعي التي باتت تعتبر الملعب الخلفي لتجييش
الرأي العام وتوجيهه في الاتجاه الذي قد يحقق المكاسب أو يتسبب في الخسارات لهذه
الفئة أو تلك.
ومما لاشك فيه
أن وسائل التواصل الاجتماعي قد أسهمت بشكل ملموس في التأثير على كثير من القرارات
السياسية وعلى توقعات ومنسوب المشاركة في الانتخابات الرئاسية خصوصا في الولايات
المتحدة الأمريكية أكبر قوة اقتصادية وسياسة عظمى في العالم .
لكن السؤال
المحوري المطروح بإلحاح في الوقت الراهن هو : لماذا أصبح فيسبوك وتويتر على الخصوص
ذلك المشجب الذي تعلق عليه إخفاقات بعض المجالات ونجاحات بعضها الآخر .. وذلك
العفريت الفيسبوكي الذي ألزم بنعلي على الهروب في جنح الظلام . ولماذا أصبحت
تدوينة على فيسبوك أو صورة على أنستغرام أو تغريدة على تويتر تغني المتلقي أحيانا
عن خبر أو مقال على صفحة جريدة ورقية الشيء خلق نوعا من العداء الدفين تحت رماد
الرقمية بين الإعلام الرقمي والإعلام الورقي ...
إن هذه المنصات
التواصلية ليست سوى ناقلات رقمية محايدة وليست خوارزمياتها مسؤولة عن صنف الركاب
الذين يستقلونها إن كانوا مجرمين أم أبرياء ولا عن الثرثرات التي تدور بينهم ولا
عن نواياهم ولا عن الوجهة التي يفرضونها على السائق .. إن هذه المواقع مجرد أجهزة
للتواصل بين البشر .. ليست لها في حد ذاتها لغة خاصة أو عقيدة أو مخططا للتنمية
البشرية أو مخططا لعملية إرهابية بل كل ما ينتج عنها هو من صميم عقل الإنسان. ولم
يكن اختراعها منذ عقود قد تم بنية مبيتة لإعدام الصحافة الورقية أو تشريد أسرها
واولادها وإنما كان تطورا تدرج عبر خمسة عقود لبنة بعد أخرى إلى أن وصل إلى ما
يتحقق اليوم مما يسمى بالإعلام البديل أو الإلكتروني أو الصحافة المواطنة وبالتالي
فالضرورة الإعلامية تفرض التفكير في خلق تكامل وتعايش ومد جسور بين السندين الورقي
والإلكتروني .. فالويب لم يقبر وسائل الميديا التقليدية مثل الراديو والتلفزيون
والجرائد الورقية وليس مسؤولا عن إغلاق القاعات السينمائية أو إخلاء ساحات الحلقة
في جامع لفنا بمراكش أو الهديم بمكناس أو بوجود بفاس ... وإنما الحل كل الحال يكمن
أساسا في القبول المبدئي بحتمية التطور الإنساني وثانيا البحث عن الحلول القمينة
بخلق مدارات تلتقي فيها جميع هذه الروافد الإعلامية الورقية والرقمية والسمعية
البصرية ويبقى على القراء اختيار السند الإعلامي الذي يليق بوضعيتهم في الزمان
والمكان
.
0 التعليقات:
إرسال تعليق