الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، يونيو 23، 2022

الكتابة والغطس في محبرة العالم : عبده حقي


ما هي الكتابة ؟ ما الجدوى منها ؟ هل هناك كتابة جيدة وأخرى سيئة ؟ أسئلة وأخرى لا يمكن الإجابة عنها بطريقة قطعية وحاسمة . من دون شك أننا نجيب عن هذه الأسئلة عندما نكتب ونجيب عنها لأنه يتحتم علينا الإجابة عنها  ، حيث يجب أن تكون لدينا فكرة عما ننجزه من كتابات ، وإلا  فإن يدنا التي نكتب بها ستتيه في جميع الاتجاهات في حقل الصفحة.

ألا يمكن أن يكون فعل الكتابة جنونا في حد ذاته ؟ سؤال طرحته على نفسي بطريقة ساذجة تمامًا . في الواقع يتعلق الأمر هنا باعتبار الكتابة أو إنتاج أي شيء فني آخر، أمرا غير طبيعي . وإذا كان يبدو طبيعياً بالنسبة لنا ، فلماذا نشعر أحيانًا ببعض القلق أمام صفحة بيضاء ؟

هناك على الأقل حالة ذهنية واحدة يجب أن نجد أنفسنا فيها ، نقرة واحدة تكفي لتنقل الوعي وهو الاندفاع الذي يبرر صيرورة الكتابة . بعد ذلك تنكتب الكلمة الأولى ، ثم تتبعها كلمات أخرى فيما بعد . ثم  ينوجد النص في النهاية ، من دون أن نفهم مصدره وإلى ما أو من ينتمي . كما نتساءل أيضا في ما إذا كان هذا النص "صحيحا" أم لا . إننا نتردد كثيرا في عرضه على القراء . كما لا نعرف في ما إذا كان ينبغي لنا أن نحتفظ به لأنفسنا أم ننفصل عنه أو نمزقه إلى الأبد .

ومثلما هو الأمر عندما نستيقظ من نوم عميق أو من حالة غضب لا يمكننا السيطرة عليها ، فإننا هنا إزاء نص ننتجه للتو من لاشيء ، النص الذي يحمل معه عديدا من الأسئلة حول ممارستنا ، حول أنفسنا وعالمنا الجواني . فما هي الحالة الأخرى التي يمكن أن تضعنا في مثل هذا الوضع إن لم تكن هي حالة الجنون؟ لأن الكتابة الشعرية مثلا ، الكتابة الحرة ، من دون قيود في الشكل أو في العمق ، هي الكتابة الأصعب .

ليس الشعر بسيطًا أبدًا كما قد يعتقد البعض، إنه دائم التعقيد في كل مرة ننهمك فيها لإنتاج قصيدة . لا نعرف أي كلمة ستنبثق في البيت الموالي لتكسر التناغم الهش الذي يسود حتى اللحظة الأخيرة في الكتابة . لا نعرف أيضا ما الذي سيكشف عنه البيت الموالي ، ولا أية الصور التي تنتظرنا في الأفق ؛ غير أن النص يظل رغم ذلك يوجهنا ويمضي بنا رويدا رويدا إلى الأمام .. إلى امتدادات أفقه المفتوح.

جنون الكتابة هو أن نفكر ككتاب بأن الواقع ليس هو كما نراه . لكننا لسنا هنا بصدد موقف رافض لهذا الواقع بل إننا نتحدث عن قبول فكرة مفادها أن العالم الذي نتخيله هو أكثر صدقًا وواقعية من العالم الذي نعيش فيه . وبمجرد استنبات هذه الفكرة في أذهاننا، يمكن حينئذ مواجهتها بأحد تعريفات الكتابة التي تتطلب وصف العالم المتواري خلف عالمنا الحقيقي .

إننا نتواجد إذن في حالتين متطابقتين للعقل . إذا كان الإلهام هو هذه القدرة على الانعطاف تلقائيا إلى حالة الجنون الإبداعي ؟ هناك أيضًا حديث عن تغيير في حالة الوعي ، كما فعل الشعراء "الملعونون" الذين أسرفوا في شرب الخمر وتدخين المخدرات المحظورة. إننا نتفق إذن على حقيقة أن الكتابة موجودة في مكان آخر، وليس هنا في هذا العالم الذي نراه . ومع ذلك فهي بحداثتها تسعى إلى رؤية العالم في كل ما هو ملموس و حقيقي ؛ ولكن هل هي ذات الحقيقة التي تحدث ممارستها؟

لقد كانت الكتابة و ما تزال دائمًا وسيلة للتعبير تحاول توجيه الخيال إلى حدث يتجاوز الواقع . أو إذا جاز القول نقل الواقع من فضاء إلى آخر حيث الكاتب ككل المجانين يغمس قلمه في محبرة العالم الآخر الذي يراه وحده من دون العامة ، ويحاول تلحيم بعض بقاياه لرد الجميل لقرائه.

يبدو لي أيضا أنه هناك جزء لا يتجزأ من الكتابة في الشعر مثلا حيث اللعب بالصور ، التي تبني معمار النص والعوالم الشخصية ، والاستعارات ، والمقارنات وغيرها من الرموز، وكلها ليست سوى أذوات لإثبات ذلك "الهناك" الذي يحرك كل شاعر ، "الهناك" الذي نلمحه من وقت لآخر. لذلك ، سواء كانت الكتابة بحاجة إلى الجنون أم لا ، فإنها تعتبر شيئا آخر غير ما نريد أن نصدقه ؛ لأن خارج التعبير المكتوب ، هناك شيء أكثر أهمية وقوة يلعب دوره الهام للغاية.

 

 

0 التعليقات: