عنوانٌ إشكاليّ، كما جلّ عناوين الكاتب الإشكالية والمتفرِّدة، والتي يُشاركنا من خلالها هواجسهُ النقدية والفكرية في قراءة الأدب والتراث العربي، خصوصاً في علاقته الدائمة بالآداب الغربية.لا يتأخر عبد الفتاح كيليطو في مدخل الكتاب، في أن يتساءل: هل بالإمكان التخلِّي عن الأدب؟ لنكتشف أنَّ ما سعى إلى الخوض فيه هو التخلِّي كموضوع للأدب، «ربَّما موضوعه الأساس وقد يكون سرّ استمراره». عشرون نصَّاً كُتبت بطريقة المؤلِّف الأثيرة بالقفز والوثب. كتُبٌ وأسماء وقراءات، إحالاتٌ واكتشافاتٌ متبصِّرة، ومقارباتٌ تستندُ على تأمُّلات شخصية عميقة تمنحها الذاكرة التي تتغذَّى باستمرار على القراءة وإعادة القراءة؛ بريقاً خاصَّاً. ولعلَّ القارئ لهذا الكتاب يتساءل هو الآخر، في أثناء تنقُّلهِ من نصٍّ إلى آخر، ومن فقرةٍ إلى أخرى، عن هذه الشكوك (المرحة) الظاهرة والخفية، وعن هذه الذاكرة (العربية) الاستثنائية التي يقاربُ بها كيليطو موضوعه، فاتحاً الأفق للنَّظر إلى الشيء نفسهِ من زوايا متعدِّدة، ما يضفي حياةً ثانية على الأدب العربي، تمدُّ جسوراً لا نهائية بينه وبين النصوص والآداب الأجنبية.
يتمتَّع عبد الفتاح كيليطو بروحٍ مرحة في قراءته للأدب عموماً وللتراث العربي خاصَّة، يدخلُ لعبةَ السَّرد أثناء قراءته للنصوص، ويجترح أسئلةً جادَّة وجديدة، وينغمس في الاحتمالات والمقارنات، مستنداً إلى بحثٍ دائم وتقليبٍ واعٍ في المخطوطات والكتب والدراسات قديمها وحديثها. نوعٌ من صناعة ملحمةٍ نقدية من التفاصيل التي كثيراً ما تٌغفَلُ في المقاربات النقدية العربية.
ولا بدَّ أن نلتقي في نصوص الكتاب وعناوينها بـ بورخيس، وثرفانتيس، والمعري، ومقامات الهمذاني والحريري، وأبو زيد السَّروجي، ورولان بارت، ورومان غاري وغيرهم. ليس استدعاءً عرضياً، إنَّما محاولة حثيثة لاكتشاف الخفايا والأسرار. ضربٌ من المستحيل المتواري خلف الأسطر، وفي الهوامش، وفي حالات اليأس والتردُّد والشك. قراءة تتعدَّى الأدب إلى الواقع والخلفية الثقافية التي تشكَّل فيها النص أو تُرجم، أو انتقل في حوضها اللغوي من الشفوي إلى المكتوب. وفي كلِّ ذلك اعتراف بالجميل ووفاء خالص للمعلِّمين الكبار على مرِّ التاريخ.
يقول كيليطو في نصِّ عيسى بن هشام: «لا يتجوَّل عيسى بن هشام، كما صوَّره المويلحي، في "مملكة الإسلام"، لا ينتقل في أرجائها من مدينة إلى مدينة كما كان يفعل سَلَفُه، راوي الهمذاني الذي كان يحمل الاسم نفسه. عيسى بن هشام الجديد لا يفارق مصر إلَّا ليذهب إلى باريس. تمَّ التركيز بشكل ملحوظ على مصر، عاداتها، أنماط حياتها، تفاصيل مجتمعها. لقد تغيَّر العالم، تبدَّلت خريطته، وتحدَّد مركز القوَّة في الغرب الذي فرض نفسه، فلم يبقَ للمؤلِّف إلا التأسُّف "على أهل الشرق [...] في انخِفاضِهم وارتفاعِ أهل الغرب فوقهم". المويلحي أو رؤية (رواية) المهزومين. بالقياس إلى رسالة الغفران، تبدو القاهرة جحيماً مروِّعاً، وباريس فردوساً موعوداً. لم يعد ممكناً في هذه الظروف كتابة مقامات على النمط القديم، وما غدا متاحاً هو الحديث عن التقابل بين الشرق والغرب، موضوع الرواية العربية منذ ذلك الحين إلى اليوم».
0 التعليقات:
إرسال تعليق