الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، فبراير 08، 2024

أفضل 100 كتاب في التاريخ اليوم ( ذكرى الماضي ) 88 إعداد عبده حقي

 


وُلد مارسيل بروست Marcel Proust بتاريخ 10 يوليو عام 1871م في أوتيويل Auteuil، أحد ضواحي العاصمة الفرنسية باريس، والداه هما الدكتور أدريان بروست وجين ويل، ينتميان إلى الطبقة الثرية في المُجتمع، والده كان كاثوليكيًا أما والدته فكانت يهودية، كان بروست في صغره طفلًا ضعيفًا، وحينما بلغ تسع سنوات، أصيب بنوبة ربو كادت أن تودي بحياته. تلقى تعليمه بمدرسة Lycée Condorcet عام 1882م، ثم التحق بالجيش لأداء الخدمة العسكرية، وبعدها درس القانون والفلسفة واشتهر بكونه بارعًا في المُناقشة والجدل، وتميز بأسلوبه الساخر وتقليد الآخرين، واعتبره البعض شخصًا مُتكبرًا ربما لأصوله الثرية.

كتب بروست مجموعة من المقالات النقدية والقصص القصيرة لصحيفتي Le Banque،La Revue blanche  عام 1896م، كما نشر أول أعماله الأدبية بعنوان  Les Plaisirs et les jours “المسرّات والأيام”، وهو عبارة عن مجموعة من القصص القصيرة والمقاطع النثرية والشعرية التي تصف الفنانين والمُوسيقيين.

حاول كتابة روايته الأولى عام 1895م، لكنه لم يكن واثقًا من قدراته؛ فتخلى عن إكمالها عام 1899م، هذه الرواية عنوانها Jean Santeuil “جون سانتويل”، وقد عمل المُحرر الصحفي برنارد فالوا على إعادة ترتيب فصول الرواية من المسودة التي ضمت آلاف الصفحات، والتي احتوت على بعض الفقرات غير المفهومة، بالإضافة إلى الكثير من الفقرات التي نُشرت في أعمال بروست الأخرى، وتم نشرها عام 1952م.

توفي والده عام 1903م، وبعده بعامين توفيت والدته، ودخل بروست على إثر هذا مصحة لمُدة شهرين للنقاهة واستعادة توازنه، وبعد الخروج منها، عاد للكتابة، ونشر سلسلة من المقالات بصحيفة لو فيجارو Le Figaro  عامي1907م، 1908م، وللمُصادفة ففي شهر نوفمبر أيضًا عام 1908م، بدأ بروست بكتابة Contre Sainte-Beuve “ضد سانت بيوف”، نسبة إلى الناقد الأدبي الفرنسي شارل أوجستين سان بيوف، وهو عبارة عن مجموعة من مقالات نقدية لم تكتمل، توقف عن كتابتها في صيف العام التالي، ومع بداية 1909م بدأ بروست في كتابة روايته “البحث عن الزمن المفقود” حتى قبيل وفاته عام 1922م؛ نتيجة إصابته بالتهاب الشُعب الهوائية والالتهاب الرئوي.

البحث عن الزمن المفقود:

بدأت نقطة التحوّل في سيرة بروست الأدبية عام 1899م، حين برز اهتمامه بأعمال الناقد الفني والكاتب الإنجليزي، أستاذ جامعة اكسفورد جون رسكين، حيث نشر بروست مقالًا عنه عام وفاته 1900م جعله من المُختصين في أعماله، إضافة إلى نشره لعدة مقالات أخرى وكذلك تعاونه مع والدته وصديقته ماري لترجمة مُؤلفات رسكين إلى الفرنسية، The Bible of Amien’s “إنجيل كاتدرائية إميان”، Sesame and Lilies “السمسم والزنابق”.

كان لاطّلاع بروست على مُؤلفات رسكين ما ساعده في تكوين أفكاره الخاصة، وتخطي الصعوبات التي واجهته عند كتابة روايته الأولى، وخلال السنوات التالية أصبح خبيرا بالرجل، الذي وجد في دعوته تأكيد حدسه وعبادة ظاهرة الفن، مُكررًا مقولة رسكن المعروفة عن الدور المُهم الذي يؤديه الفن في خدمة الحقيقة.

وضع بروست الخطوط العريضة وأفكار رائعته “البحث عن الزمن المفقود À la recherche du temps perdu رغم أنه توقف حيال هيكلة ذلك كله من خلال متن الرواية، وفي لحظة ما عاد به الزمن إلى الوراء ليسترجع ذكريات شبابه التي قضاها في حديقة جده، وكانت تلك المشاعر بالنسبة إليه هي الجانب الخفي الذي منحه الانبعاث الفني الذي تحدث عنه في كتابه “ضد سان بياف”، وهذا ما جعله مُهتمًا بعرض نظرته الشخصية للحياة بدلًا من تقديم وصف واقعي لها، حيث تتبع مراحل نضوجه عبر استحضار سلسلة من التجارب التي خاضها، لتعكس ذاته الداخلية بواقعية أكثر مما تعكسه حياته في العالم. في البداية رفض العديد من الناشرين الرواية، ومنهم الناشر “جاليمار” الذي عرضها على الأديب الفرنسي “أندريه جيد  André Gide لمُراجعتها، ولم تعجبه؛ وبناءً على ذلك رفضها “جاليمار”، وقام بروست بتقديمها إلى دار نشر “جراسيه” لنشرها على حسابه الخاص.

بعد نشر الرواية وحينما أعاد “جيد” قراءتها، كتب إلى بروست قائلًا: “كل الذين رفضوا نشر هذه الرواية مُلزمون بتقديم الاعتذار عن الخطأ الذي وقعوا فيه وتقديم التهاني لك؛ فلعدة أيام كنت لا أستطيع وضع الكتاب من يدي، أعترف إن رفضها كان أكبر خطأ ارتكبته في حياتي”. وحينما عرضت دار “جاليمار” على بروست نشر الرواية؛ رفض مُفضلًا البقاء مع الناشر “جراسيه”، وفي عام 1916م، حصل المُؤلف الفرنسي أندريه جيد على حقوق نشر الأجزاء الباقية.

فيما بعد تم التعامل مع الرواية باعتبارها عملًا أدبيًا، وكتب عضو الأكاديمية الفرنسية “أندريه موروا”، مُقدمة لها عقد فيها مُقارنة ما بين محاولات بلزاك الروائية في القرن التاسع عشر لتصوير مُجتمع بأكمله في سلسلته “الملهاة الإنسانية”، حينما كتب عن الحياة الخارجية، وبين محاولات بروست في القرن العشرين للتعمق في الذات، ليعود الفكر الإنساني يلتقي ذاته في مركز العالم، ويصبح غرض الرواية وصف الكون من منظور الذات بالدخول مُجدداً إلى الوعي.

قال موروا في مُقدمته التي أصبحت استهلالًا للرواية في طبعتها الثانية:

“إن كامل حياة الكائنات البشرية نضال ضد الزمن، فهي تبغي التعلق بحب، صداقة، بقناعات، ولكن نسيان الأعماق يرتفع شيئاً فشيئاً حول أجمل ذكرياتهم وأغلاها، هي مُغامرة لكائن رائع الذكاء، مريض الإحساس، ينطلق من طفولته في البحث عن السعادة المُطلقة، فلا يلقاها في الأسرة ولا في الحُب، ولا في العالم ويرى نفسه مُنساقا إلى البحث عن مُطلق خارج الزمان، شأن المتصوفين من الرهبان، ويجد ذاك المُطلق في الفن مما يؤدي إلى اختلاط الرواية بحياة الروائي وإلى انتهاء الكتاب لحظة يستطيع الراوي بعدما استعاد الزمان أن يبدأ كتابه، فتنقلب بذلك الحكاية الطويلة على نفسها لتغلق الحلقة العملاقة، أشبه ما تكون بالتمثال الروحي الذي يصمد كالصخر في وجه العاديات، إنها مرثاة للدمار الذي يصنعه الزمن بالأشياء والناس إن غفلت”.

إنها رحلة السعي الذي قام به بروست، طوال السنوات الأخيرة من حياته، وسط يأسه ومرضه، للوصول إلى ذلك التعبير الضروري عن علاقة الوعي بالزمن. وكان قد كتب أغلب أجزاء الرواية في نفس الوقت وقسمها لأجزاء مع إضافة فصول وأقسام أخرى لها قبل النشر. ولما شعر بدنو أجله، كان قد أنهى مسودة الرواية كاملة، وبدأ العمل على تنقيحها وتصحيح النسخ المطبوعة منها؛ لكنه توفي قبل أن يُتِّم ذلك، ولم يكن قد نُشِرَ منها الثلاثة أجزاء الأخيرة والتي قام أخوه الأصغر، روبرت، بتعديلها وتنقيحها ونشرها تباعًا.

الرواية تقارب المليون كلمة، تضمهم أربعة آلاف وثلاثمائة صفحة، في سبعة أجزاء، الجزء الثاني حصل على جائزة “جونكور” الفرنسية في الأدب عام 1919م لتكون أول رواية سيرة ذاتية تحصل على جائزة أدبية على الإطلاق.

نبذة عن أجزاء الرواية:

الجزء الأول: جانب منزل سوان  Du côté de chez Swannعام 1913م:

يبدأ الكاتب فيه بالإشارة إلى مرحلة الطفولة للراوي في هذه الرواية، والتي تختلط في بعض الأحيان بالسيرة الذاتية للكاتب نفسه، سوان هو شخص يهودي معروف للمُجتمع الفرنسي، يتذكره بروست وإن كان بعض النقاد يعتقدون أنَّها رواية في جزء منها خيالية، وأن سوان بالتالي شخصية خيالية، الذي يهمنا هنا أن بروست يفصل في موضوع الزمن بأسلوب جديد حيث تلاعب بالزمن ما بين الماضي والحاضر، وصف الطبيعة في الريف والمدينة والحياة بينهما، وتناول الحياة البرجوازية في المُجتمع الفرنسي، بطل الرواية شخص ذكي، على جانب كبير من الحساسية، ويسعى مُنذ طفولته باحثًا عن السعادة المُطلقة من خلال كلِّ شيء من حوله، سواء في العائلة، أو في الحُب، أو في العالم من حوله، فلا يجدها أبدًا؛ فيضطر للبحث خارج الزمن.

الجزء الثاني: في ظلال ربيع الفتيات  À l’ombre des jeunes filles en fleurs عام 1918م:

في هذا الجزء قصة حب مُختلفة عن قصة الحُب التي عاشها البطل في الجزء الأول حينما أحب فتاة تدعى جيلبرت، وظهر حبُّه لها بشدة، ولكنَّه هنا ينتقل إلى حالة نادرة بين البشر، وهي الحُب الجماعي، فقد سيطرت عليه حالة أحبَّ فيها الفتيات اليانعات الشابات جميعهنَّ، وهنَّ اللاتي التقى بهن على شاطىء بالبيك، ورغم خصوصية مشاعره تجاه ألبرتين إلا أن هذه الحالة كانت مُسيطرة عليه.

الجزء الثالث: جانب منزل جرمانت  Le Côté de Guermantes عام 1920م:

يتحدث الراوي في هذا الجزء عن الحرب، والخدمة العسكرية التي قضاها في شبابه، وقد أشار إلى تفاصيل هذه المرحلة بدقة شديدة مثل بقية المراحل، وبتفاصيل مُملَّة في كثير من الأحيان.

الجزء الرابع سدوم وعمورة Sodome et Gomorrhe عام 1921م:

يعتبر هذا الجزء من الأجزاء التي كانت مُثيرة للجدل في العالم العربي، وقد مُنعت من الترجمة سابقًا، إذ تطرَّق فيها الكاتب إلى مسألة المثلية الجنسية وتحدث عنها بكل وضوح وشفافية، وهذه نقطة سأعود إليها.

الجزء الخامس: السجين La Prisonnière عام 1923م:

في هذا الجزء تظهر شخصية الفتاة “ألبرتين” بوضوح كشخصية رئيسية وأساسية في الرواية، وهي الفتاة التي أحبها البطل من قبل رغمَ ولعه بالكثير من الفتيات الشابات، يناقش هذا الجزء انهيار أعمدة الطبقة الأرستقراطية في فرنسا، ويشير إلى الآثار التي ترتبت على ظهور الطبقات البرجوازية في البلاد وصعودها بشكل سريع مع وصولها إلى الحُكم في فرنسا، وتأثير ذلك على الأوضاع المحلية والشعب والمُستقبل، فلم يكن البطل مُتفائلًا بصعود تلك الطبقة إلى الحُكم.

الجزء السادس: الشاردة أو ألبرتين المُختفية La Fugitive Albertine disparue عام 1925م:

تختفي ألبرتين في هذا الجزء الذي يُطلق عليه الهاربة، أو “ألبرتين في أرض الشتات أو الشاردة”، وقد تحدث هذا الجزء عن اليهود بشكل مُفصَّل، حيث وصف الكثير عن حياتهم وتطلعاتهم وعلاقاتهم بمن حولهم من أفراد المُجتمع.

الجزء السابع: الزمن المُستعاد Le Temps retrouvé عام 1927م:

تحدَّث الراوي في هذا الجزء عن الأحداث التي جرت في فرنسا عمومًا، وفي باريس خصوصًا خلال الحرب العالمية الأولى، وانعكاسات الحرب على واقع المُجتمع الفرنسي، ليكون هذا الجزء بمثابة رحلة وداع حزينة، ودع فيها بروست شخصياته وأماكنه من خلال استعادة حزينة لكل تفاصيل المكان، والبشر، والموت الذي فجع شخصيات روايته الواحد تلو الآخر.

كيف قرأوا البحث عن الزمن المفقود؟

إن “البحث عن الزمن المفقود” واحد من أكثر الكتب التي حاولت الأقلام النقدية الكتابة عنها في القرن العشرين، أمثال “رينيه جيرار”، و”فرانسوا ماركيه”، و”ميلان كونديرا”، وغيرهم.

في كتابه “بروست والإشارات” تحدث الفيلسوف الفرنسي “جيل ديلوز” عن أن “البحث في الزمن المفقود” ليست دراسة مُكرسة للذاكرة أو طبيعة الزمن، بل هي عمل يحكي عن تعلّم بروست شتى أنواع التمرين والتدريب التي مرّ بها، حيث نتابع التطور الفكري والروحي وسط إشارات يرسلها العالم وتأخذ شكل تفسير مُتلاحق، ومثل هذا التفسير ليس بمُسلسل روائي فحسب، بل هو إرث أدبي كامل لبروست، ولذلك من المُفيد الرجوع إلى نصوصه المُبكرة كصيغة أولى لتلك المقاطع المعروفة من أجزاء “في البحث عن الزمن المفقود”، وكما هو الحال في مُؤلفات جيمس جويس، إن عمل بروست لا ينمو أفقيا بتصاعد الأحداث، بل يغور كتوصيف في تفاصيل أعمق فأعمق لأحوال حدس سابقة، فيكون العمل النهائي لديهما ليس بلورة بل بالأحرى مُتكاملة مُترابطة، بل أحوال عودة مُفاجئة لسياقات مُحددة من جديد تمنح معنى مُغايرا للمقاطع السابقة لها، وهذا هو التلاعب الزمني الذي صنعه بروست، فذروة الحدث في الرواية لا ترتبط بطبيعة الواقع واللحظة الحالية، بل هي استحضارات الذاكرة والعودة للزمن المفقود.

أما “أندريه موروا” فلفت انتباهه شرقية “البحث عن الزمن المفقود”، وعنى بهذا افتتان بروست بليالي ألف ليلة وليلة، حينما طرح تساؤلًا حول سبب طول الرواية، وكانت إجابته تأكيدًا على أنها هي التي ألهمت الكاتب، وهذا ما صرّح به بروست داخلها؛ في أكثر من موضع منها حينما تحدث عن الشرق فقال: “لم يراود خيالي شرق “ديكان” ولا شرق “ديلاكروا”؛ وإنما الشرق القديم كما في “ألف ليلة وليلة” التي أحببتها كثيرًا، سيكون كتابًا بطول ألف ليلة وليلة ربما، ولكنه مُختلف تمامًا فلا شك أننا عندما نحب عملًا ما نرغب في فعل شيء مُشابه له، ولكن يجب أن نضحي بهذا الحُب الآني، وألا نفكر في أذواقنا، وإنما في حقيقة لا تطلب منا ما نفضله، وتمنعنا حتى من التفكير فيه. فقط عندما نتبعها نصادف أحيانًا ما تخلينا عنه”. أما بالنسبة لتتابعات بروست الزمنية فقال موروا: “ينبغي تصور طريقة بروست التي لن تتغير من بعد على أنها طريقة لاعب شطرنج يتابع عدة عمليات هجومية في الآن نفسه، هو ينتقل من طرح إلى آخر، من قطاع إلى آخر، من مدينة إلى أخرى ومن جماعة إلى أخرى، ولم يكن هذا التوسع تتابعًا خطيًا كما يقص الكاتب حكاية من أولها إلى آخرها، فبروست يستعيد على العكس، بدايات ووحدات مُختصرة ليتوسع بها ويضخمها إلى حد لافت أحيانًا أو على العكس ليحذفها”.

أما الباحث البولندي “ميخائيل ماركوفسكي” فيرى أن إعجاب بروست “برسكين” قد تحوّل إلى نزوع طاغٍ للتطابق معه رغم التباعد القائم بين الاثنين في شتى الأفكار والتصورات. فرسكين وجد أن العصر الذهبي لأوربا كان في زمنين: اليوناني والوسيطي، أما بروست فكان على يقين بأن جوهر الإنسان يتكشف في حقيقة طاقاته التطورية، وأن المُستقبل هو بعبارة أخرى اكتشاف فضاء رحب لتلك الطاقات.

فالذاكرة الطوعية، ذاكرة الذهن والعيون، تعطينا الماضي في هيئة واحدة فحسب، هيئة الشبه غير الدقيقة التي تتذكرها كما تذكر لوحات مصورين رديئين الا أن هذا لا يعني بأن تلك الذاكرة الطوعية التي قد يثيرها حافز جاء بالمُصادفة هي المفتاح النموذجي الذي يفك أقفال الماضي. ففي أرشيف الذاكرة تهوّم الأشباح أيضًا، فهو وفق فضاء غير مُرتب ومُقلق ملؤه الأزقة المُقفلة والتفرعات الجانبية والدهاليز المموّهة، وعلى هذا فالسارد الراوي في “البحث عن الزمن المفقود”، هو بروست نفسه، أو بروست الذي عرفناه من صفحات الرواية.

إنه تأثير “راسكين” وقناعة بروست بأن الفنان شخص يحيا وحيدًا ولا يعتبر الأشياء المرئية ذات قيمة مُطلقة، ولا يمكنه العثور علي تدرجية القيم إلا في نفسه. لأن فرض الكتابة هو فرض العثور على الذات إزاء الآخرين، بل ربما ضدهم، فمعرفة سيرة الكاتب هي المفتاح لتفسير مُنتجه الأدبي والفكري، بما يتفق مع ما ذكره بارت في كتابه “الميثولوجيا” حيث “الأنا” مفهومة وواضحة بقوة. وهكذا تكون الكتابة مفتوحة على كل الجهات، تكون سفرًا من دون بداية ونهاية، وعلى الكاتب أن يحلم بمثل هذا السفر دائما.

قالوا عنها إنها السيرة الذاتية التي غيرت تاريخ الأدب:

ربما هي مُصادفة أخرى ونحن نحتفل بمئوية وفاة بروست هذا العام تحديدًا، وبعد فوز ابنة فرنسا “آني إرنو” بجائزة نوبل في الآداب عن حصيلة أعمالها التي تنتمي لأدب السيرة الذاتية، علينا أن نتوقف لبعض الوقت حيال فهمنا لأدب السيرة الذاتية، وتحديدًا من خلال “البحث عن الزمن المفقود”، فهي قد تكون السيرة الذاتية الأكثر أهمية في تاريخ الكتابة، لأنها طورت في الأساليب والتقنيات السردية. حيث ساهمت في تطوير أسلوب سردي جديد في حينها، أُطلق عليه اسم تيار الوعي في السرد، تشابه مع بروست كل من الإنجليزية “فرجينيا وولف”، والإيرلندي “جيمس جويس”، والأميركي “ويليام فوكنر”. كل منهم أسهم في ترسيخ ما أطلق عليه تيار الوعي في الأدب، مع بدايات القرن العشرين، بإدخال تقنيات المونولوج الداخلي على النص.

ترافقت هذه التغيرات في الأدب مع اكتشاف التحليل النفسي من قبل فرويد، وظهور نظريات الفيلسوف الفرنسي “هنري برجسون”، عن الزمن، الذاكرة ليصبح النص مونولوجًا للسارد يتلقى العالم، عبر الحواس، الزمن، الذهن وبالتحديد عند بروست، عبر الذاكرة وهذا ما جعل نظرته إلى الزمن نظرة جديدة، فلا حدود فاصلة بين الماضي والحاضر، بل كلاهما في تداخل مُستمر، فتيار الوعي يتنقل بين الماضي، الحاضر، واللحظة التي يعيشها الذهن، ليتذاوب الزمن سائلًا بلا حدود صارمة.

زمن بروست المفقود هو قبل كل شيء، الزمن الذي انقضى، هي الأحداث التي ما وعيناها تماماً ونحن نعيشها، والتي تعيد الذاكرة تشكليها، وهو أيضاً الزمن المفقود الذي أضاعه صاحبه في البطالة، فلم يكتب خلاله شيئاً، وقد حمل في داخله نزعة الكاتب من دون أن يتوصل إلى تحقيقها أو نسيانها، فأكثر الجنات حقيقة هي تلك التي فقدناها، “السنوات السعيدة هي السنوات المفقودة”، بروست يعلم أن الأنا تتفكك إذا ما انغمست في الزمن حينما يتغير الإنسان عن ذلك الماضي الذي كان عليه. تتبدل الشخصيات في جوهرها مع الزمان وتسلسل الأحداث، وربما كما يرى بروست أنه من العبث أن نعود إلى الأماكن التي أحببناها، فلن نبصرها من بعد، لأنها كانت واقعة في الزمان لا في المكان، وأن الرجل الذي يعود إليها ليس الطفل أو اليافع الذي كان عليه حينما عاشها. فهو يحاول بعدما طُرد من جنات طفولته وفقد سعادته، أن يعيد خلقها، ويكتشف ميوله العشقية المثلية، ويعيش صراعات داخلية طويلة وأليمة، يخرج منها مغلوبًا، يحكي عن جهوده في كبح رغباته، الأمر الذي يفرض عليه الاعتراف والكتابة عن نفسه لفهمها وتحليلها عبر الرواية.

هذا يعود بي إلى شيئين، أولهما مثلية بروست التي عرف بها أغلب من حوله وإن لم يتحدثوا عنها صراحة، وثانيهما تناول بروست للمُجتمع اليهودي من خلال ثلاث شخصيات رئيسية في روايته، ورؤيته لليهود التي اعتبرها البعض مُعاداة لليهود الذين شبههم “بالشواذ جنسيًا” على حد قوله، هل كان يقصد بروست بالفعل مُعاداة اليهود؟! أرى وعن يقين أن لا، لم تكن تلك أفكار بروست، هنا يتناسى هؤلاء أن بروست كان ابنًا لسيدة يهودية، وأنه كان مثليّ الجنس أيضًا، تميزت شخصيات بروست اليهودية بالتَكبُّر الشديد، ولكنه تكبُّر يخفي وراءه شعورًا عميقًا بعدم الأمان، فاليهود في نظر بروست أقلية مُضطهدة يتملّكها جنون الإحساس بالاضطهاد والارتياب الشديد في الآخرين، وكذلك مثليو الجنس الذين لم يكن سهلًا عليهم في مثل ذلك الوقت المُجاهرة بمثليتهم صراحة.

لم يكن الأمر مُعاداة لليهود قدر ما كان رؤية شفافة صادقة لهم وعنهم، إنهم لا يشبهون “الشواذ جنسيًا” سُبّة لهم وذمًا، بل لأنهما في تلك الفترة صنوان كليهما أقليّة مرفوضة ومكروهة، وبروست بشكل ما كليهما معًا.

لقد كان بروست يبحث عن ذاته التي لا يستطيع أن يطلق لها العنان، يلتقيها برحلته عبر الزمن ومونولوجاته الداخلية وتنقلاته الزمنية ليطرح التساؤلات عن الفارق بين أنا الكاتب، وبين أنا الحقيقة في حياته الشخصية، ويصل إلى أن ذات المُؤلف مُختلفة عن ذات الشخصية الحقيقية.

بما أنه يعتبر الكتابة أساس في عملية بحث الإنسان عن زمنه المفقود بين الماضي والذاكرة، ففي بداية الجزء الأول يتحدث بروست عن الكتابة باعتبارها التواصل مع نفسنا الأشد عمقًا، والتي تراجع فيها باختصار كل الأنفس الأخرى. أو كما قال الفيلسوف والكاتب “جان فرانسوا ماركيه”: “كل البحث عن الزمن المفقود هو توجه تدريجي للرواية نحو تلك اللحظة التي يعترف فيها بأن الحياة الحقيقية، الحياة المُكتشفة والموضحة أخيرًا، وبالتالي الحياة الوحيدة المعيشة بالفعل، إنما هي الأدب”.

أما في النهاية، فقد ختم بروست روايته بالزمن المُستعاد، حيث أكدّ على أن الحياة الحقيقية التي يعيشها المرء بامتلاء تكمن في الأدب، الأدب الذي خلق الروائي من خلاله عالمه الذي يشبه عالم ألف ليلة وليلة، عالم سينقضي في النهاية بالموت، والذي كان يستشعره بروست في الحقيقة بدنو أجله، فالموت في ذلك الوقت كان هو الفكرة التي أضحت تزاحم فكرة الحُب داخل النفس، والرغبة في الحياة والأمل، عبّر بروست عن هذا في نهاية الرواية فقال: “كانت فكرة الموت ترافقني بشكل دائم تماما كفكرة الأنا”.

لقد اختصرت رحلة “البحث عن الزمن المفقود” رحلة “إنسان”، ووصفت رحلة البشر في عوالم مسكونة بالقلق والسعادة والحُب الذي يبقى احتمال تحققه واردًا، إنها الرحلة التي نستطيع فيها أن نكون أنفسنا وكل هؤلاء الآخر الذي لم نلتقيه يومًا، في حياة وحيدة مُدهشة هي حياة الأدب.

ربما أفضل ما أختتم به المقال واحد من أقوال بروست التي تختصر زمنه المفقود بلحظات قراءة العبارة: “خلال مراحل الحياة، وفي ظل تأثير بعض المشاعر الاستثنائية، قد يبوح الناس بما يجول في خاطرهم من أفكار”.

تابع



0 التعليقات: